في هذه الأيام تمر مئوية قائد شهم وزعيم عظيم وسياسي حكيم ومقاوم شرس، ملأ الدنيا وشغل الناس في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، إنه محمد ولد الخليل زعيم قبيلة الرگيبات، الذي توفي رحمه الله في 8 سبتمبر 1925 أي قبل مائة سنة من هذه الأيام، وقد دفن عند أضاة لمريفگ في منطقة بالنشاب بولاية إينشيري.
في هذا المقال سنعرف بهذا الزعيم، وبرسم تاريخي نادر صممته الفنانة الفرنسية أنا كينكان (Anna Quinquaud) لمحمد ولد الخليل في عشرينات القرن الماضي.
تذكر المراجع التاريخية أن محمد ولد الخليل اشتهر بعدة صفات من أبرزها الذكاء والإقدام والكرم، كما تذكر أنه عارض دخول الفرنسيين واشتبك معهم في أيام، ثم كاتبهم سنة 1911م هو وقومه أولاد الغاظي، غير أن عاطفته وولاءه ظلا مع المقاومة. ففي تلك السنة نزل بسان لويس (اندر) في وفد من الرگيبات وأولاد دليم ليتفاوض مع الفرنسيين حول طرق استتباب الأمن. كما حضر إلى سان لويس مرة أخرى سنة 1921م.
في هذه الفترة بالتحديد لقيت النحاتة الفرنسية "أنا كينكان" محمد ولد الخليل وهو بسان لويس، فصممت له رسماً يدوياً جميلاً، ويبدو أنها فعلت الشيء نفسه مع بعض الأعيان الموريتانيين. وقد حولت في ثلاثينيات القرن الماضي، لما رجعت إلى باريس، بعض رسومها إلى تماثيل، ويوجد بعض أعمالها الفنية في متاحف فرنسية، كما يوجد بعضها معروضاً للبيع في أسواق رقمية مثل أمازون وغيره.
ومن بين أعمال كينكان الفنية التمثال المعروف باسم الموريتانية " La Mauritanienne " أو المرأة البيظانية " La Femme Maure"، وهو تمثال يصوّر امرأة موريتانية تحمل طبقًا، وهو عمل نحتي للفنانة يعود إلى عام 1937م. وتمثال "المرأة البيظانية" يوجد في الحي السادس عشر من مدينة باريس، حول مرآة الماء "Le miroir d’eau" أمام قصر طوكيو "Palais de Tokyo" في باريس، على شارع نيويورك.
ويبدو أن الصحراء الموريتانية وساكنتها أغرت هذه الفنانة الفرنسية، فكان في انبساط الصحراء الموريتانية واتساعها، وفي بساطة أهلها وكرمهم دافع لهذه الفنانة حتى تحلق في عوالم فنية وأحلام شاعرية، وتنتج عن الموريتانيين رسوما كثيرة. كانت رسومها، التي حولت بعضها فيما بعد إلى تماثيل معدنية، غاية في الروعة والجمال، وربما كان هذا أول مرة يدخل فيها فن الرسم المحترف الجميل إلى بلادنا.
وإلى جانب محمد ولد الخليل قامت كينكان بإنجاز رسم لأمير الترارزة أحمد سالم ولد إبراهيم السالم، حولته إلى تمثال فيما بعد، كما صممت رسما للعالم والقاضي أحمد ولد أبنو عبدم، وهو من أبرز قضاة وأعيان أولاد ديمان.
وقد تم عرض الرسوم في معرض مهيب بمدينة اندر نهاية أكتوبر وبداية نوفمبر 1926 بعد وفاة محمد ولد الخليل بسنة، وضم المعرض، فضلاً عن ذلك، رسوماً لشخصيات موريتانية أخرى. وكانت كينكان تقول عن المجتمع الموريتاني في ملاحظاتها وخلال شروحها لمعارضها بأن: "نساء موريتانيا في غاية الجمال، وأن لدى الرجال الموريتانيين ملامح بيزنطية في الشفتين والعينين ممزوجة بملامح المكر العربي"، هكذا تقول كينكان.
ولدت النحاتة أنا كينكان سنة 1884 وتوفيت سنة 1984، وكانت من أبرز الفنانين ممن برعوا في نحت الأخشاب والمعادن وصناعة التماثيل والمشاركة في المعارض بداية القرن العشرين. وقد حصلت سنة 1924 على الجائزة الثانية للنحت بروما.
ويقدم لنا رسم محمد ولد الخليل الفني البديع بورتريه مفعماً بالهيبة والوقار، مرسوماً بخطوط فحمية قوية وحساسية عالية في الملامح. تظهر ملامح الوجه بتفاصيل دقيقة تُبرز عمق التجربة الإنسانية للشخص المرسوم؛ الجبهة العريضة، العيون الغائرة ذات النظرة المتأملة، والتجاعيد التي تروي تاريخاً طويلاً من الحكمة والصبر والإقدام والشجاعة.
وتأتي العمامة لتُغطي الرأس وقد انسدلت بخفة حول الكتفين في خطوط انسيابية، متوازنة بين الظل والنور، مما يضفي على الرسم إحساساً بالسكينة والسمو. أما اللحية البيضاء الكثيفة فهي تكمّل ملامح الوجه وتؤكد انطباع الوقار والرصانة. والألوان الأحادية بالأسود والرمادي منحت العمل طابعاً كلاسيكياً، وجعلت التركيز منصبًّا على التعبير الداخلي أكثر من المظاهر الخارجية.
يبدو أن الفنانة كينكان أرادت أن تنقل، ليس فقط ملامح محمد ولد الخليل، بل أيضاً عمقه النفسي وكرامته؛ فالنظرة هنا حادة وهادئة في آنٍ واحد، كما لو أنها تحمل حكمة الصحراء وذاكرة الأجيال. العمل برمته يجمع بين البساطة والعمق، وبين الصرامة الفنية والرهافة الشعورية، ليُقدّم لنا صورة خالدة لمحمد ولد الخليل تُلامس الروح قبل العين.