ترسم الدول ومراكزها عادة معالم الأطراف والحدود، وتضع بصمتها على البلدات القصية والتخوم. أحيانا تتجاسر الأطراف النائية، فتعبث بما حولها من فضاءات. ونيورْ إحدى هذه البلدات التي ما فتئت تضع بصمتها على تاريخ الساحل، وتغير خرائط وحدود الدول البلدان.
كان السودان الفرنسي (مالي) أربعينيات القرن الماضي يضم منطقة الحوض، وكانت موريتانيا تقريبا بنصف مساحتها التي عليها الآن. وربما كانت الأمور لتسير على هذا النحو حتى الاستقلال، لولا تداعيات الصراع بين السلطات الاستعمارية وأتباع الطريقة الحموية الآخذة حينها في التمدد والانتشار انطلاقا من معقلها في مدينة نيورْ. فبعد أن جربت فرنسا النفي والتغريب في حق الشيخ حماه الله، وهدمت زاويته، وحاكمت وأعدمت العشرات من ذويه وأتباعه، إثر مواجهات قبلية دامية، حاولت أن تفكك هذا الترابط الجغرافي العابر للأعراق والألسن والقوميات لأتباع الطريقة الحموية والواصلَ بين السافانا والساحل والصحراء. هكذا اتخذت السلطات الاستعمارية قرارا بفصل الحوض عن السودان الفرنسي وضمه لموريتانيا سنة 1942. كان هدفها أن تقطع ارتباط نيورْ بولاتة وبمجال الحوض عموما وبقبائله من البيظان الذين شكلوا وسطا وامتدادا طبيعيا لتلك الطريقة التيجانية سريعة الانتشار والصعود، وتبعا لذلك مسرحا للمواجهة والصراع على النفوذ.
ورغم أن هذه الخطوة الفرنسية، وما صاحبها من تضييق على أتباع الحموية، ساهم إلى حد ما في انزياحات صوفية داخل موريتانيا، فإن نفوذ مدينة نيورْ ظل يتمدد ويتعمق في مالي، وكوت ديفوار وبوركينا فاسو إلى الجنوب. ولم تترك الحموية أثرها في النفوس والانتماءات، ساحبة البساط أحيانا من تحت شقيقاتها من الفروع التيجانية ومن القادرية، وجالبة الإسلام إلى نطاقات لم يصل إليها من قبل وحسب، بل وصل تأثيرها حد إعادة تشكيل الطوبونيميا في بوركينا فاسو، حيث تبدلت أسماء المناطق والقرى التي انتشرت فيها هذه الطريقة. هكذا وضعت الحموية بصمتها في أعماق أراضي الموشي عبر قرى وبلدات حملت أسماء ذات هوية إسلامية مثل راماتولاي ونيماتولاي ونورولاي في شمال وغرب بوركينا فاسو.
ولم تكن الحموية أولَ تجربة لنيورْ مع المركزية وتصريف الحدود وشد قلوب الأتباع، وضبط إيقاع الحياة على أوراد المريدين. فللمدينة تاريخ طويل مع الزعامات الدينية والسير الهاجيوغرافية ومع الفتوحات والاغتراب والعودة والغياب والانتظار. كانت نيورْ عاصمة لدولة كارطا، وهي إحدى شظايا انفجار الماندينغ بعد انهيار إمبراطورية مالي ثم الصونغاي، قبل أن يسيطر عليها الحاج عمر الفوتي خمسينيات القرن التاسع عشر. ومع تلك السيطرة، ضربت نيورْ موعدا مع التاريخ والتيجانية والجهاد، وتحولت إلى عاصمة الجناح الشرقي لدولة الفوتيين، لتظل على مدى سنوات نقطة وصل بين فوتا تورو والجيوش العمرية الزاحفة نحو بلاد ماسينا وعاصمتها حمد الله. وفي المدينة نشبت أشرس المعارك وأشدها ضراوة ضد الاستعمار في المنطقة بين أحمدو بن الحاج عمر الفوتي والقائد الفرنسي لويس أرشينار سنة 1819.
ولم يقتصر دور نيورْ أيام الزحف العمري على الإمداد العسكري وضمان تدفق المقاتلين الفوتانكي شرقا، بل ساهمت في صياغة الأسطورة العمرية ورسختها في المخيال الشعبي وفي الذاكرة والأذهان. فوفق السردية العمرية، نبع الماء قرب نيورْ، بعد أن كادت جيوش الحاج عمر الفوتي تموت من العطش أثناء مواجهتها مع آخر ملوك كارطة.
أما اليوم، فيكاد النبع العمري ينضب تحت وطأة حصار ماسينا القادم من الشرق، ويحذر حاكم الحوض الغربي قوافل تيشيت من الميرة جنوبا في نيورْ.