على مدار الساعة

الزعامة الاحتجاجية بين رمزيتها وحدودها: قراءة في التجربة الموريتانية في ضوء تجارب دولية

4 سبتمبر, 2025 - 14:30
حمادي ولد آباتي

تُثير شخصية برام الداه اعبيدي جدلاً واسعاً في المشهد الموريتاني، فهي من جهة تُستقبل من جماعات من البظان ورموزهم وتُكرَّم بما يُعَدّ ذروة الاعتراف الاجتماعي (كرائم الإبل)، ومن جهة أخرى تُطلق تصريحات في الخارج تقارن الممارسات الداخلية بما جرى في جنوب إفريقيا في حقبة الفصل العنصري. هذا التناقض لا يمكن فهمه فقط كخيار شخصي، بل يعكس أزمة أعمق تتعلق بطبيعة الزعامة الاحتجاجية في مجتمع شديد التعقيد، ما يزال واقفاً على أرضية تاريخية واجتماعية متصدعة.

 

1. الكاريزما فيبرية وملء فراغ التمثيل:

لا يُنظر إلى برام بوصفه صاحب مشروع سياسي متكامل أو منظّر أكاديمي، بل لكونه ملأ فراغاً رمزياً في مجتمع أقصيَت فئات واسعة منه من التمثيل داخل الدولة. هذه المكانة تُحاكي ما وصفه ماكس فيبر بـ"الشرعية الكاريزمية"، حيث يقوم الزعيم على جاذبية شخصية استثنائية وقدرة على استنهاض الانفعال الجمعي، لا على شرعية عقلانية - قانونية أو تقليدية مؤسسية.

 

غير أن الشرعية الكاريزمية بطبيعتها مؤقتة وهشة، وقد تنهار عند أول اختبار سياسي جاد، ما لم تتحول إلى شرعية مؤسسية أكثر رسوخاً.

 

2. خطاب المظلومية كأداة للتعبئة:

خطاب برام يستند إلى المظلومية التاريخية، وهو ما جعله يحظى بجماهيرية واسعة بين المهمشين. لكنه خطاب محفوف بالمخاطر، لأنه إذ يُنتج التعبئة، يغذي في الوقت نفسه الانقسام الاجتماعي ويثير ردود فعل مضادة تهدد قيم الوئام.

 

المقارنة هنا مفيدة: فقد نجح مارتن لوثر كينغ في تحويل المظلومية إلى خطاب قيمي يستند إلى الدستور الأميركي، جامعاً السود والبيض حول حلم مشترك. كما استطاع نيلسون مانديلا أن يوظف المظلومية في جنوب إفريقيا ليس لتكريس العداوة، بل لبناء مشروع اندماجي تُوِّج بلجنة "الحقيقة والمصالحة". هذا التحول لم يتحقق في حالة برام، حيث ما يزال الخطاب أقرب إلى الاحتجاج الصبياني منه إلى المشروع الاندماجي.

 

3. المجتمع الأهلي وصراع الهيمنة:

من منظور أنطونيو غرامشي، يشكل "المجتمع الأهلي" ساحة للصراع على القيادة الثقافية والأيديولوجية. حاول برام أن يتموضع داخل هذا الفضاء ممثلاً للمهمشين، لكنه لم ينجح في إنتاج "هيمنة ثقافية" قادرة على إعادة تعريف القيم الجمعية للمجتمع.

 

وهنا يظهر الفرق مع تجربة توماس سانكارا في بوركينا فاسو، الذي لم يكتف بخطاب احتجاجي، بل أعاد صياغة الثقافة الوطنية والهوية الجماعية، محولاً رمزية المظلومية إلى مشروع تحرر وطني وعدالة اجتماعية.

 

4. التحالفات البنيوية واستعصاء التغيير:

تستند السلطة في موريتانيا إلى تحالف تاريخي بين المؤسسة العسكرية ورجال الأعمال وزعماء القبائل. هذا التحالف يتمتع بقدرة على إعادة إنتاج نفسه، مستفيداً من الشرعية التقليدية والدينية والبنية البيروقراطية. في ظل هذه المنظومة، تظل الزعامة الكاريزمية وحدها عاجزة عن إحداث تحول جذري، لأنها تصطدم ببنية صلبة قادرة على امتصاص الضغوط.

 

خاتمة مع مقترحات عملية:

إن أزمة الزعامة الاحتجاجية في موريتانيا ليست أزمة برام وحده، بل هي انعكاس لأزمة بنيوية تتعلق بغياب قيادة تحويلية قادرة على تجاوز حدود الكاريزما الفردية إلى مشروع وطني مؤسسي. ومن هنا، فإن أي مسار للتغيير يحتاج إلى:

1. بناء حركات اجتماعية منظمة: قادرة على استيعاب المهمشين وتأطير مطالبهم في لغة سياسية مؤسسية، على غرار حركات الحقوق المدنية.

2. إصلاحات قانونية ومؤسسية: سنّ قوانين تجرّم التمييز وتضمن تكافؤ الفرص، مع تعزيز استقلال القضاء كضامن للحقوق.

3. إعادة تعريف الثقافة الوطنية: صياغة خطاب وطني جامع يدمج مختلف الموروثات في هوية موحدة، على نحو يحد من الانقسامات التاريخية.

4. دور النخب المثقفة: بلورة مشروع وطني فكري يعيد صياغة المظلومية في رؤية سياسية بنّاءة، بدل حصرها في شعارات احتجاجية.

5. الإدماج الاقتصادي: خلق سياسات تنموية تستهدف المهمشين (تمويل صغير، فرص عمل، تعليم مهني) باعتبار أن الغبن الاقتصادي هو أساس التهميش الاجتماعي.

6. مأسسة الحوار الوطني: إنشاء منصات دورية للحوار بين المكونات الاجتماعية، بما يكسر الصور النمطية ويبني جسور الثقة.

 

إن الانتقال من الزعامة الكاريزمية إلى القيادة التحويلية المؤسسية هو الشرط الأساس لتجاوز ثنائية الغبن والغياب، وصياغة أفق وطني يقوم على العدالة والاندماج والوئام الاجتماعي.