على مدار الساعة

إلى أي مدى سينجح ولد التاه في إعادة تشكيل مشهد التمويل التنموي لأفريقيا؟

2 سبتمبر, 2025 - 14:03
أحمد ولد محمدو - كاتب وإعلامي

بعد أربعة أيام من احتفاء إفريقيا باليوم الإفريقي في 25 مايو 2025، والذي يرمز في بعض جوانبه إلى تصميم شعوب القارة على التحرر والعمل لتحقيق مستقبل أكثر ازدهارا، شهدت أبيدجان يوم 29 من نفس الشهر لحظة تاريخية قد تعيد تشكيل مستقبل القارة وتسرع تحقيق طموحات أبنائها؛ حيث انتخب د. سيدي ولد التاه رئيسا تاسعا للبنك الأفريقي للتنمية بأغلبية ساحقة بلغت 76.18% من الأصوات.

 

لم يكن هذا الانتخاب مجرد مواصلة للاحتفالات، ولا تغييرا في قيادة أهم مؤسسة مالية تنموية في القارة فحسب، بل كان مؤشرا قويا على بداية عصر جديد من التنمية الاقتصادية الشاملة في إفريقيا، وذلك ما أكده مهندس هذا النجاح فخامة رئيس الجمهورية السيد / محمد ولد الشيخ الغزواني في كلمته خلال حفل تنصيب الرئيس الجديد للبنك حيث قال: "الدكتور سيدي ولد التاه يتحمل هذه المسؤولية الجسيمة لضمان أن يعزز البنك دوره الرئيسي في تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية للقارة، حتى يظل رافعة كاملة من حيث تحقيق تطلعات الشعوب الأفريقية إلى السلام والازدهار والتنمية".

 

فالدكتور ولد التاه، الذي تولى مهامه رسميا في الأول من سبتمبر 2025، يتقلد منصبه الجديد حاملا معه خبرات واسعة في مجال التمويل الإفريقي والدولي، وبسجل حافل بالإنجازات في تحويل المؤسسات المالية العربية إلى قوى فاعلة في التنمية الإفريقية.

 

وهذا ما كشف عنه في كلمة التنصيب حيث تعهد باستعداده "لتوسيع شراكة البنك لتشمل جهات فاعلة جديدة مثل الصناديق السيادية وصناديق التقاعد وغيرها". كما التزم "بإعادة النظر بشكل عاجل في نماذج الاستثمار لدينا لتشمل ركيزة مخصصة للاستثمار في السلام".

 

"خيميائي المال العربي": كيف ضاعف رأس مال البنك العربي للتنمية الاقتصادية في إفريقيا؟

لفهم أهمية هذا الحدث، يجب أن نعود إلى قصة نجاح استثنائية؛ فعندما تولى ولد التاه رئاسة المصرف العربي للتنمية الاقتصادية في إفريقيا (BADEA) عام 2015، لم يكن رأسماله يتجاوز 4 مليارات دولار، غير أنه خلال عقد من الزمن   قادها بخطوات مدروسة ورؤية طموحة نحو ما يمكن وصفه بـ"المعجزة المالية".

 

ولم تكن مضاعفة رأس المال الإنجاز الوحيد، بل نجح أيضا في توسيع محفظته الاستثمارية، ومكن المصرف من الحصول على تصنيف ائتماني (AA+) من وكالة "ستاندرد آند بورز"، مما جعله من أكبر البنوك الفاعلة في التنمية الإقليمية. إن هذا التحول الجذري لم يكن صدفة، بل كان نتيجة استراتيجية محكمة لجذب رؤوس الأموال العربية نحو الاستثمار في إفريقيا.

 

لقد كان تحقيق هذه الإنجازات المتتالية في وقت قياسي ثمرة شبكة من العلاقات الواسعة التي بناها ولد التاه مع المؤسسات المالية العربية، بدءا من عمله في البنك الإسلامي للتنمية في السعودية (1999 - 2006). لقد حول العلاقات من مجرد صداقات شخصية إلى شراكات استراتيجية حقيقية أثمرت مليارات الدولارات من الاستثمارات.

 

البنك الأفريقي للتنمية: محرك عملاق بحاجة إلى وقود

إن البنك الإفريقي للتنمية ليس مؤسسة عادية؛ فبرأس مال يبلغ 318 مليار دولار وتصنيف ائتماني (AAA)، يعتبر أحد أقوى بنوك التنمية في العالم. لكن هذا العملاق يواجه تحديا صعبا يتمثل في احتمال انسحاب الولايات المتحدة من رأس ماله، مما قد يفقده جزءا من رأس ماله.

 

وهنا يكمن الذكاء الإفريقي العربي في اختيار ولد التاه. فبدلا من النظر إلى الانسحاب الأمريكي المحتمل كأزمة، يمكن أن يشكل اليوم فرصة ذهبية لإعادة بناء نموذج التمويل التنموي في إفريقيا بجهود تقودها الدول العربية، خاصة البلدان الخليجية التي تمتلك قدرات مالية كبيرة والتي تبحث عن فرص استثمارية مفيدة.

 

عندما يتحول النفط إلى تنمية

إن التصنيف الائتماني العالي للبنك يجعله بمثابة "صرّاف آلي" يمنح ذهبا بدلا من الأوراق النقدية المعتادة. فحسب الخبراء، يمكن لكل دولار في رأس مال البنك أن يولد 3 - 4 دولارات من القدرة الإقراضية، بفضل تصنيفه الذي يسمح له بالاقتراض بأسعار فائدة منخفضة جدا. وهذا يعني ببساطة أن زيادة رأس المال بمقدار 50 مليار دولار من الأموال العربية يمكن أن تولد قدرة تمويلية إضافية تصل إلى 200 مليار دولار.

 

بالتأكيد، يدرك الرئيس الجديد للبنك هذا الأمر جيدا، فخبرته في (BADEA) أثبتت قدرته على إقناع المستثمرين العرب بأن إفريقيا ليست مجرد قارة تحتاج إلى مساعدات، بل هي سوق استثماري واعد يمكن أن يحقق عائدات مجزية.

 

فرص ثورة في البنية التحتية

بأموال مضاعفة، قد تشهد إفريقيا ثورة حقيقية في البنية التحتية. فالمشاريع التي يمولها البنك حاليا تعطي لمحة عما هو قادم حيث تشكل مشاريع النقل 27% من محفظته، ومشاريع الطاقة 19%. لكن مع زيادة رأس المال، يمكن أن تتضاعف هذه النسب وتتنوع المشاريع.

 

فعلى سبيل المثال يمكن أن يمول البنك شبكة سكك حديدية تربط شمال القارة المطل على أوروبا بمدينة "كيب تاون"، أو محطات طاقة شمسية عملاقة في الصحراء الكبرى تزود القارة بأكملها بالكهرباء النظيفة مع إمكانية تصدير الفائض. هذه ليست أحلاما، بل مشاريع قابلة للتنفيذ بالتمويل المناسب. فالبنك يمول حاليا مشاريع طاقة متجددة بنسبة 77.37% من إجمالي مشاريع الطاقة لديه، وهذا مؤشر على توجهه المستقبلي.

 

هل يكون الانسحاب الأمريكي نعمة مقنعة؟

قد يبدو احتمال انسحاب الولايات المتحدة من البنك تحديا حقيقيا، لكن بعض التحليلات العميقة تعتبر أنه ربما يكون "نعمة مقنعة"؛ فالاعتماد على التمويل الغربي التقليدي، الذي يتم ربطه أحيانا بقيود متعددة تقلل من جدوائيته، يمكن استبداله بالأموال العربية التي تتميز بمرونة أكبر في التعاطي مع الواقع الإفريقي. فالدول العربية تنظر إلى إفريقيا كامتداد طبيعي لمجالها الاستراتيجي، وهذا الفهم يترجم إلى استثمارات طويلة المدى تركز على بناء القدرات المحلية بدلا من مجرد تقديم المساعدات المؤقتة.

 

وهذا هو بالضبط ما عبر عنه ولد التاه خلال حملته الانتخابية بقوله: "ينبغي لإفريقيا أن تتجاوز منطق التبعية للمانحين، وتتوجه نحو طيف أوسع من الشركاء: من المستثمرين السياديين، ورؤوس الأموال الخيرية، وصناديق الأثر الاجتماعي، والممولين المعتمدين على التكنولوجيا". ويضيف: "هؤلاء لا تقيدهم دورات المعونات التاريخية ولا الإرهاق السياسي، إنما يبحثون عن التوافق، وعن فرص واسعة النطاق، وعن نتائج ملموسة. ويجب أن يكون البنك الإفريقي للتنمية هو المنصة التي تفتح الباب لهذا التحول".

 

كما أعاد التأكيد على تبني هذا الخيار خلال حفل التنصيب حيث أكد الرئيس الجديد أن البنك سيكون "متيقظا، ومتجاوبا، وقادرا على تحديد الأولويات المهمة". وأشار إلى أن البنك سيعزز شراكاته من خلال العمل الوثيق مع الحكومات والقطاع الخاص والشركاء الدوليين، "لننشئ معا إطارا ماليا يخدم إفريقيا بشروطها الخاصة".

 

رؤية جديدة... لإفريقيا الجديدة

إن الرئيس الذي تسلم مهامه اليوم يتصور إفريقيا قوة اقتصادية عالمية بناء على رؤيته التي تقوم على أربع ركائز أساسية: إصلاح البنية المالية، تحويل العامل الديموغرافي إلى قوة اقتصادية، دعم التصنيع، وتعبئة رأس المال على نطاق واسع. فالشباب الإفريقي، الذي يشكل 60% من سكان القارة، هو المحرك الأساسي لهذا التحول. لكن هذا المحرك يحتاج إلى طاقة تمكنه من الانطلاق وهي: التعليم التقني، والتدريب المهني، وفرص العمل في المشاريع الحديثة. هنا يأتي دور الاستثمارات العربية في تمويل مراكز التدريب ومشاريع التكنولوجيا المتقدمة.

 

يمثل انتخاب سيدي ولد التاه أكثر من مجرد تغيير في القيادة؛ إنه إعلان عن بداية عصر جديد من الشراكة العربية الإفريقية، عصر يجسد مبدأ "رابح - رابح" ويقوم على الاستثمار المتبادل والمنفعة المشتركة بدلا من المساعدات المشروطة أحادية الجانب.

 

في الواقع، التحديات موجودة والطريق طويل، لكن الأدلة من تجربة (BADEA) تشير إلى أن ولد التاه يمتلك الرؤية والخبرة والعلاقات اللازمة لتحقيق هذا التحول. إذا نجح في استنساخ نموذج (BADEA) على نطاق أوسع، فإن إفريقيا قد تشهد نهضة تنموية حقيقية تغير وجه القارة إلى الأبد.

 

والسؤال اليوم لم يعد "هل سينجح ولد التاه؟" بل "إلى أي مدى سيصل نجاحه؟". الإجابة ستكتبها السنوات القادمة، لكن كل المؤشرات تدل على أن إفريقيا على أعتاب عصر ذهبي بدعم من المال العربي.