أصدرت حركة إيرا مؤخرًا بيانًا قسمّت فيه المجتمع الموريتاني إلى لونين متقابلين، وذهبت أبعد من ذلك حين وصفت أصحاب لون معيّن بأنهم “السكان الأصليون”. مثل هذا الطرح، وإن بدت له جاذبية عاطفية آنية ، فإنه يفتقر إلى الدقة التاريخية والعمق الاجتماعي، ويُغفل حقيقة أساسية وهي أن الأوطان لا تُبنى على الألوان، بل على المشتركات والقيم الجامعة.
الهجرات تصنع الأوطان لا الألوان
موريتانيا لم تُولد دفعة واحدة من لون واحد أو قبيلة واحدة، بل هي حصيلة قرون من التداخل البشري والهجرات المتعاقبة. فمنذ العصور القديمة، عرفت المنطقة هجرات زنوجية كبرى من الضفة الجنوبية لنهر السنغال، حيث تشكّلت ممالك قديمة مثل غانا ومالي وسونغاي كان لها حضور ثقافي وسياسي بارز في هذه الأرض.
كما شهدت موجات صنهاجية أمازيغية هيمنت قرونًا على الفضاء الصحراوي، وأسست حواضر وعواصم وطرقًا تجارية. نفس الشيء بالنسبة للهجرات العربية المعروفة، خاصة بني حسان، الذين أسهموا في ترسيخ الثقافة العربية الإسلامية التي أصبحت اللسان الجامع لمعظم أهل البلد.
هذه الهجرات لم تُلغِ بعضها البعض، بل تمازجت وتعايشت في عملية طويلة من التفاعل أنتجت المجتمع الموريتاني الحالي. ولذلك فالبحث عن “سكان أصليين” خُلّص في مجتمع مثل موريتانيا ضرب من الوهم، لأن كل مجموعة قادمة وجدت أخرى قبلها، وكل واحدة أسهمت في صنع المشهد الاجتماعي والثقافي والسياسي.
اللون ليس معيارًا للفرز
لو نظرنا بإنصاف إلى المجتمع الموريتاني، لوجدنا أن اللون لا يرسم خطًا فاصلاً بين الناس. ففي كل مجموعة أو سلالة نجد طيفًا واسعًا من الألوان، بل إن الأسرة الواحدة قد تضم درجات مختلفة من البشرة. اللون في هذه الأرض ليس جدارًا عازلًا، وإنما خاصية بشرية طبيعية تتعدد وتتداخل. إن اختزال الانتماء أو تحديد الحقوق والواجبات بمقياس اللون ليس إلا تبسيطًا مخلًا لا يعكس الواقع.
المشتركات أَولى بالولاء
حين يُسأل الموريتاني: من أنت؟ فإن أول ما يجيب به في الغالب هو أنه مسلم، ثم أنه موريتاني. الدين الإسلامي كان منذ قرون القاسم الأعظم بين جميع المكونات، لغة القرآن صارت لغة التعليم والعلم والفقه، والانتماء للوطن عززته الجغرافيا والتاريخ والمصالح المشتركة. هذه القواسم أولى بالولاء من أي رابطة لونية أو عرقية. فالمجتمعات المستقرة تُبنى على عقد اجتماعي جامع، لا على تصنيفات سطحية تُثير الأحقاد ولا تُنتج تنمية ولا استقرارًا.
خطأ استنساخ “أفلام” الماضي
قد يقول قائل إن خطاب اللون ليس جديدًا، وإنه أداة نضال ضرورية. لكن التجارب التاريخية القريبة تدحض ذلك. فقد جُرِّبت خطابات التقسيم اللوني والعنصري في أكثر من سياق، سواء تحت عناوين قومية أو هوياتية، ولم تُنتج سوى صراعات دامية وأزمات متطاولة.
إن إعادة تدوير هذه الشنشنة تحت غطاء “المظلومية التاريخية” للحراطين خطأ مزدوج:
• خطأ في حق بعض دعاة القوميات الزنجية الذين على الأقل يملكون تمايزًا ثقافيًا ولغويًا يمكن أن يدافعوا عنه في إطار نقاش هوياتي.
• وخطأ أكبر في حق الحراطين أنفسهم، حين يراد فصلهم عن من يجمعهم معهم كل شيء ديناً ولغةً وثقافةً ومصيرا مشتركا.
وبذلك فإن محاولة دفع الحراطين إلى خندق لوني هي عملية اقتلاع لهم من جذورهم الحضارية والثقافية، وتوريط لهم في صراع وهمي لا يخدمهم ولا يخدم البلد.
القضية الحقيقية: إنصاف الحراطين
لكن كل هذا لا يعني إنكار واقع الحراطين. فقضيتهم قضية حقيقية لا يمكن ولا يجوز القفز عليها. هناك فقر مدقع ينهش شرائح واسعة منهم، وهناك تهميش اجتماعي ممتد، وضعف في القدرة على الوصول إلى الفرص الاقتصادية وربما السياسية . الأسباب التاريخية لذلك معروفة والمسؤولية عنها جسيمة.هذه قضايا واقعية يجب أن تكون محور النقاش والبحث لها عن حلول يجب أن يكون على رأس الأولويات.
المعالجة الموضوعية لهذه المظالم لا تتم بالانحياز للون، بل بالانحياز للعدالة الاجتماعية. المطلوب هو سياسات تنموية شاملة تُعيد توزيع الثروة، وتوفر فرص التعليم والعمل. وحدها هذه الحلول هي التي ترفع الظلم وتمنع استغلال القضية.
أما ترك الحراطين رهينة لخطابات سياسية متطرفة، أو لزعامات تجيد استغلال معاناتهم لمكاسب آنية، فهو ظلم مضاعف. فمرة يُظلمون بالتهميش، ومرة يُظلمون بالاستغلال.
نحو خطاب وطني جامع
إن موريتانيا اليوم بحاجة ماسة إلى خطاب وطني جامع، لا إلى خطاب لوني تقسيمي. خطاب يعترف بالمظالم ويعالجها، لكن دون أن يهدم المشتركات الكبرى. نحن بحاجة إلى إعادة صياغة المشروع الوطني على أساس الهوية الجامعة والمواطنة المتساوية، والعدالة في الفرص، وصون الكرامة للجميع.
فالألوان، مهما بدا بريقها في عيون اللونيين، ليست أساسًا لبناء مستقبل. الأساس هو دولة القانون، والتنمية العادلة، والمواطنة الكاملة. بهذا فقط يمكن أن يشعر كل مكوّن موريتاني ـ عربيًا كان أو زنجيًا ـ أنه جزء لا يتجزأ من هذا الوطن، وأن له مكانًا في مستقبله.