حين دعا فخامة رئيس الجمهورية إلى قضاء العطلة السنوية في الداخل، لم يكن الأمر مجرد إشارة بروتوكولية أو نصيحة عابرة، بل كان توجيهًا ذا دلالات عميقة، يحمل بين طياته بعدًا سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا في آن واحد. إنها دعوة إلى العودة إلى الجذور، إلى المكان الأول الذي بدأ منه الحلم، وإلى استعادة الصلة الحية بين القيادة والمجتمع.
إن العطلة، في هذا المفهوم الجديد، لم تعد فترة فراغ أو انقطاع عن العمل العام، بل تحوّلت إلى مساحة للتأمل والتواصل وتجديد العهد مع الوطن من خلال مساقط الرأس.
فحين يختار المسؤول أن يقضي أيام راحته بين أهله وذويه، فإنه يعكس قيمًا أساسية: التواضع، القرب، والانتماء الصادق. هذه القيم تبني الثقة، وتعيد للمسؤول صورته الأصلية كمواطن قبل أن يكون رجل دولة.
قضاء المسؤول لعطلته في قريته أو مدينته الأم، يفتح أمامه آفاقًا واسعة للتواصل المباشر مع المواطنين بعيدًا عن الجدران الرسمية. ففي جلسة شاي تقليدية أو وليمة عائلية بسيطة، يمكن أن يسمع أصواتًا صادقة تحمل انشغالات الناس وتطلعاتهم. وفي زيارة قصيرة إلى مدرسة ابتدائية، يمكن أن يستحضر ذاكرة الطفولة، لكنه في الوقت نفسه يكتشف عن قرب ما تحتاجه الأجيال القادمة. وفي جولة تقوده إلى مركز صحي أو بئر ماء قديم، يعاين حقيقة الحياة اليومية لأهالي المنطقة، ويشعر بمدى مسؤولية الدولة تجاههم.
إن الرمزية هنا أقوى من أي خطاب رسمي. فالمشهد الذي يظهر فيه المسؤول وهو يجلس مع شيوخ قريته، أو يشارك الشباب في مباراة رياضية محلية، أو يزرع شجرة مع الأطفال في ساحة المدرسة، يبقى في ذاكرة الناس أكثر من عشرات الكلمات المكتوبة. إنها السياسة الناعمة التي لا تُمارس بالتصريحات، بل بالمواقف الإنسانية البسيطة.
وليس البعد الاجتماعي وحده ما يُعطي لهذه العطلة قيمتها، بل هناك أيضًا البعد التنموي. فالمسؤول الذي يعود إلى مسقط رأسه، يمكن أن يستغل وجوده لدعم مبادرة صغيرة، كتوزيع أدوات مدرسية، أو المساهمة في إصلاح مسجد قديم، أو تشجيع جمعية شبابية ناشئة. مثل هذه المبادرات لا تُكلّف الكثير، لكنها تترك أثرًا عميقًا لأنها تلامس حياة الناس مباشرة. وهنا تصبح العطلة وسيلة لتعزيز التنمية المحلية، في تناغم كامل مع رؤية الرئيس الرامية إلى جعل الدولة قريبة من المواطن أينما كان.
وفي السياق ذاته، يمكن للعطلة أن تكون لحظة ثقافية بامتياز. فالمسؤول حين يحضر أمسية شعرية أو عرضًا موسيقيًا شعبيًا في قريته، فإنه يساهم في إحياء التراث المحلي ويمنحه قيمة وطنية. وحين يختار ارتداء اللباس التقليدي في لقاءاته مع أبناء منطقته، فإنه يعزز صورة الارتباط بالهوية، ويرسخ شعورًا بالاعتزاز المشترك بالثقافة الوطنية.
هكذا إذن، تتحول العطلة من وقت خاص إلى رصيد وطني مشترك. إنها ليست انقطاعًا عن الواجب، بل امتداد له بروح مختلفة. فهي تتيح للمسؤول أن يعيد اكتشاف وطنه من زاوية أخرى: زاوية الحياة البسيطة التي يعيشها المواطن كل يوم. وهي أيضًا فرصة لتجسيد رؤية الرئيس بأن القيادة ليست برجًا عاجيًا معزولًا، بل جسورًا مفتوحة بين السلطة والمجتمع.
إن العودة إلى مساقط الرؤوس تحمل رسالة مزدوجة: رسالة إلى النفس بالوفاء للجذور، ورسالة إلى الوطن بأن التنمية الحقيقية تبدأ من القرية الصغيرة، من البئر القديم، من القسم الأول في مدرسة ابتدائية متواضعة. وكل مسؤول يقضي عطلته بين أهله، يعزز هذه الفكرة عمليًا، ويثبت أن خدمة الدولة ليست وظيفة مؤقتة، بل انتماء دائم.
وهكذا، تتحول العطلة في الداخل إلى مدرسة للقيم: قيم الوفاء والبساطة، قيم القرب والمشاركة، قيم الانتماء الصادق للوطن. وهي أيضًا وسيلة لترسيخ الثقة بين المواطن والدولة، عبر صورة مختلفة للمسؤول، صورة الإنسان الذي لم تنسه المناصب جذوره الأولى.
وبذلك، فإن تعليمات الرئيس ليست مجرد توجيه إداري، بل رؤية متكاملة لبناء علاقة جديدة بين الدولة والمجتمع، علاقة تُعيد الاعتبار للأرض، وللجذور، وللناس الذين يشكلون قلب الوطن وروحه.