وقفتُ على منشور لأحد الأصدقاء - من المهتمين بالبناء الحضاري للأمة - يناقش فيه فلسفة الفيلسوف الأمريكي ذو الأصول اليابانية "فرانسيس فوكوياما" في مفهوم الحضارة وما وصلت إليه، فهو الذي يراها وفق منظوره قد بلغت ذروتها في السلوك والتصرف البشري، وذلك ما يعبر عنه جلياً في كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير".
وقد انبرى لهذه الفكرة علماء وفلاسفة من أمثلتهم كما وصف الأخ صاحب المنشور، الفيلسوف الجزائري "مالك بن نبي" - رحمه الله - الذي يعتمد في فلسفته كشرط للذروة الحضارية الدمج بين المادي والروحي، وعلى ذلك كتبتُ هذه الأسطر، مشاركةً في النقاش وتحفيزا لأصحاب الكتابة والفكر على التأسي بمالك بن نبي، ولَجم أعداء الفكرة بالفكرة فذلك ميدان جهادي يعد فرض عين على أهل المجال لا يسقط عنهم ما لم يقم به غيرهم منهم.
إن الله تعالى خلق الكون وسيّر له أنبياءً ورسلاً لينظموا أساليب الاستخلاف والمعاملات وبناء المجتمعات والحضارات، فأرسل منهم خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم نبراسا لكل شيء، فبيّن وشرّع ونظّم وسيّر، وكان مما انتهجه أن جعل مقومات رئيسية للمجتمع المسلم الذي سيكون اللبنة الأولى للبناء الحضاري الإسلامي، شرع له فيها قيّما هي مدخل أي تطور حضاري، قال صلى الله عليه وسلم مبيناً القالب الحقيقي للدين الإسلامي: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" رواه البخاري.
فالأخلاق في الإسلام هي الجوهر المحدد لأي توجه حضاري يراد منه الاستمرار والبقاء وضمان الاستخلاف في الأرض، فمنه تسن المعاملات وتشرع القوانين والدساتير ويبت في الخلافات والأزمات وينظر إلى التظلمات ويجيش عليه الجيوش ويفرض من زواله الجهاد.
إن الإسلام كدين، دين حضاري قد أخذ شرعيته من التصريف الإلهي للكون المتطلب لشريعة ربانية تحسن المعاملة وترتقي في سلم العبادة متخذة في ذلك قيّما إلهية تضمن لها الاستمرار وتُزيح في طريقها كل متربص.
إن دينا هذا شرعه يستحيل على المنتسبين له أن يسلكوا للحضارة رفعة من دونه، فهو حزام أمان، من أخذه بحق أمن وسلم، ومن فرط فيه هلك وخسر.
هذا الحزام الرباني الروحي في حقيقته يتنافى فكرة وتأصيلا وتحقيقا مع الحزام المادي الحسي، ذلك الحزام الذي يجعل من المادة كل شيء يعتمد عليها وعليها يتكل، يعتمد - كما نعتمد نحن على القيّم الربانية - على علوم تجريبية يثق فيها ويرتقي، هي أمانه وحصنه الحصين.
ولعل من الفلاسفة والمفكرين من يرى - واهماً - أن الحضارة الغربية المعاصرة قد وصلت إلى أوج ما قد يصلونه له، فهم طبعا قد وصلوا لجميع أنواع الانحراف وأشكال الانحلال والتسلط والغطرسة - وما زال في جعبتهم منه المزيد - وقد اخترعوا واكتشفوا وطوروا أساليباً للرفاهية وحتى خلودهم الدنيوي الخدّاع، ومن الأكيد أن لديهم من الاختراعات والتطور التكنولوجي في قابل الأيام كثير ما دامت المادية طاغية والانغماس في الدنيا هو أقصى غاياتهم، فلا الذكاء الاصطناعي بمتوقف على ما وصل إليه الآن من انبهار، ولا المنظومة القيّمية الغربية متوقفة على هذا المفترق، ففي بنيات الطريق من خططهم مفترقات للضلال وعبادة الشيطان والتمهيد للدجال.
ولن تُزيح حضارتهم - الصورية المادية - سوى حضارةً تنتهج من الفكرة الأصلية للخلق سبيلا ولمجد الإنسان طريقا وإلى الله مسلكا ومنه معبودا.