على مدار الساعة

"الله يرحمه..."

15 أغسطس, 2025 - 17:04
بقلم: الحاج أحمد إديجبي

كانوا يستقلون نفس الباص، وبشكل شبه يومي. كانت محطتا ركوبهما تسبقان محطته، لكن محطة نزوله تسبق محطتهما، ولذلك فقد لاحظا أنه لا يشتري تذكرة النقل أبداً!

 

كان صاحبنا طالبًا موريتانيًا يدرس في إحدى دول المشرق العربي، في زمن فوران "البركان العروبي" إذ ذاك، وذلك ما شجعه على تلك الخطيئة الصغيرة. كان يعلم يقينًا أنه لو تم اكتشاف أمره، فلن يتجاوز الموقف لحظات، وسَيُترَك لشأنه مودعاً بابتسامة متسامحة وعبارة:

- خطية، طالب عربي!

 

لكن كان لصاحبينا رأيًا آخر، لذلك فقد بيّتا له فخًا محكمًا.

 

كان الباص ذلك اليوم مزدحمًا، لا مساحة فيه إلا للوقوف في الخلف. وحين صعد صاحبنا، أفسحا له مكانًا بينهما.

 

وهناك بدأت خطتهما الجهنمية.

 

أشار أحدهما إلى شخص من الركاب قائلًا:

- الله... هذا يشبه فلان.

ردّ الثاني:

– الله يرحمه، كان دايمًا يقطع تذاكر لما يركب الباص.

 

قال الأول بتنهيدة مقصودة:

– صحيح... كان يُصرّ على ذلك إصرارًا، رحمة الله على روحه "الطاهرة".

 

دار هذا الحديث القصير حول أذني صاحبنا، بين أخذ ورد، وكان صوت المتحاورين مضبوطا بدقة، لا يتجاوز تلك الدائرة الضيقة التي تحيط بالنفر الثلاثة.

 

لكن صاحبنا تجمد في مكانه... صار كأنه أحد اعمدة "الإينوكس" المغروسة في أرضية الحافلة والمثبتة في سقفها. دارت به الأرض، ودارت معها الحافلة، ثم فجأة تباطأ الزمن... وأحس بشعور غريب؛ فكأنما انكسرت داخل صدره قارورة زجاج، ثم تناثرت ذراتها في الهواء متباعدة في أفق التلاشي رويدا رويدا..

كل ثانية صارت دهراً،

كل نبضة قلب غدت كقرع الطبول في رأسه.

الوجوه الواجمة من حوله تحوّلت إلى مرايا مكبّرة، تعكس توتره وضعفه.

أصوات الركّاب مختلطة، مشوشة، بطيئة، كأن العالم بأسره قد توقف ليتفرّج عليه وحده.

 

الكلمات التي سمعها قبل لحظات تتردد في ذاكرته كصدى لا ينتهي، والأفكار تدور في رأسه كأوراق مبعثرة تتلاعب بها ريح عاتية. أما جسده، فكان مسمرا في مكانه كتمثال في خربة مهجورة.

 

كان معتادًا على أن يحشر حقيبته بين ساقيه حين يستقل الحافلة، لكنه يومها اندفع خارجها فور أن فُتح الباب، ناسياً الحقيبة التي أمسك بها أحد "الرفيقين" إياهما، وصاح بنبرة جمعت بين التنبيه والسخرية المكبوتة:

- أخي، أخي... الحقيبة مالتك!

يا لها من قصة لا تنتهي!

 

ومنذ ذلك اليوم، لم يعد صاحبنا يتهاون أبدا في أمر مهما كانت بساطته، لم يكن الخوف من التفتيش هو ما غيّره، بل تلك اللحظة التي انكشفت فيها نفسه لنفسه، فقد أدرك أن الخطأ لا يحتاج دائمًا إلى من يفضحه، أحيانًا تكفي جملة عابرة، أو نظرة مترصدة، لتقلب الداخل رأسًا على عقب. هناك، في المساحة بين الصوت والصمت، يُولد الضمير من جديد، ويضع صاحبه في مواجهة صامتة لا انفكاك منها... مواجهته مع ضميره الذي يراه كيوم ولدته أمه.