هذه دعوة ونداء عاجل للجميع وبالأخص للمحامين والجهات التنفيذية والقضائية والرقابية، من أجل تنظيف مجالنا الرقمي حفاظا على مجتمعنا وقيمه وعلى صحة أفراده النفسية خاصة الأطفال وكبار السن.. أمام هذه الفوضى العارمة من مقاطع خادشة وصور خليعة وصوتيات مريعة!
لقد طفح الكيل وبلغ السيل الزبى.. ولم نعد نستطيع أن نتابع أخبار أصدقائنا وعائلاتنا ولا أن نتواصل معهم على هذه المواقع التي يمكن أن توصف بكل شيء إلا أنها "اجتماعية" دون أن نتعثر بصوتية إباحية أو صورة خادشة وألفاظ خارجة ومنشورات لا تليق!
فلا رقابة ولا رقيب على مجالنا التواصلي الرقمي، حتى الرقابة الآلية على سوئها، ليست متاحة لنا لأن أغلب هذا المحتوى الخارج يكون باللهجة الحسانية وبالتالي لا تلتقطه خوارزميات الرقابة في هذه المواقع!
إننا نعيش اليوم في فضاء لا سقف له ولا جدار. الكلمات تعبر من شاشة إلى وعي غر، والصورة لا تعتذر حين تقتحم حياة طفل لم يتعلم بعد معنى حدود النظر. ليس الحديث عن شطحات فردية متفرقة، بل عن منظومة بث يومي متواصل تعيد تشكيل المزاج العام، وتؤثر في الصحة النفسية، وتزرع الفرقة بين فئات المجتمع من حيث لا نرى. لذلك يصبح السؤال أخلاقيا وقانونيا معا: كيف نضع حواجز واقية تحمي الأطفال والمراهقين وكبار السن، وتبقي الفضاء الرقمي مجالا للمعنى لا منجما للفوضى؟
وإذا نزلنا من الإجمال إلى التفصيل، فالتنمر الإلكتروني واحد من أكثر الممارسات إيذاء.
وتربط دراسات حديثة بين التعرض للتنمر عبر الإنترنت وبين ارتفاع احتمالات أعراض الاكتئاب، والقلق، وحتى التفكير الانتحاري في بدايات المراهقة. ليست المسألة "صلابة شخصية" بقدر ما هي نمط تعرض مستمر لمقولات جارحة وصور مهينة ومعايرة علنية تبث على مدار الساعة. هذا النمط يترك أثرا تراكميا ينعكس على الأداء الدراسي، وعلى تقدير الذات، وعلى القدرة على بناء علاقات آمنة.
ثم يأتي الخطر الذي لا نحب الاعتراف به: خوارزميات الترويج. ليست المنصات "محايدة" حين تمنح المحتوى الأكثر إثارة وغلوا فرصة الظهور المتكرر. فقد رصدت بحوث جامعية حديثة كيف تتكفل بعض الخوارزميات بتضخيم محتوى عدائي ومخل خلال أيام قليلة، فتتحول نبرة الازدراء والسخرية والتمييز إلى "النمط السائد"، ومعها تنزلق المقاييس الأخلاقية من غير أن نشعر. هذه الحلقة المفرغة لا تؤذي الفتيات والفتيان فقط، بل تغير لغة الحوار العام وتضغط على السلم الاجتماعي.
وليس هذا مجرد مسألة ذوق، فلدينا شواهد أنظمة كاملة انفلت فيها خطاب الكراهية حتى صار جسورا نحو العنف الحقيقي. ففي تقرير موسع لمنظمة العفو الدولية حمل خوارزميات منصة فيسبوك جزءا من المسؤولية عن تضخيم خطاب التحريض الذي مهد لجرائم ضد أقلية الروهينغيا في ميانمار عام 2017، وهو مثال صارخ على قدرة البنية التقنية، حين تدار بمنطق الربح المجرد، على تغذية الكراهية بما يتجاوز "المعارك الرقمية" إلى معارك واقعية على الأرض. لسنا في ميانمار، لكن الدرس أخلاقي وتقني: ترك المنظومات بلا فرامل، مع اقتصاد انتباه يكافئ الشخص الأشد ضجيجا، يعرض أي مجتمع هش للانزلاق.
ومن زاوية السن، تشير بيانات حديثة إلى استمرار معدلات ملحوظة من الوحدة والانعزال عند من تجاوزوا الخمسين، خاصة مع تدهور الصحة الجسدية أو النفسية. في البيئات ذات الروابط الاجتماعية التقليدية، إذ قد يتحول الاعتماد المفرط على الشبكات إلى إحساس أعمق بالانعزال إذا كانت التفاعلات سطحية أو مؤذية.
إن العنف اللفظي لا يجرح الأطفال وحدهم، بل يضغط على كبار السن أيضا، ويزيد هشاشة.
إن مجتمعنا الموريتاني متعدد الشرائح والقوميات والقبائل واللغات، اتفق تاريخيا على أعراف راسخة من التصافي، لكن الفضاء الجديد يخلط بين الرأي والشتيمة، وبين النقد والتحريض، ويظهر الاختلافات كأنها شقوق لا تردم.
إن المؤثر الذي لا يعنيه سوى زيادة المتابعة والرعايات الإعلانية، قد يختار الأسهل: من صدمة لغوية ومحتوى خادش وإيحاء طبقي أو قبلي، لأن "الترند" لا يكافئ التوازن بل يفضل الحدة، ومع غياب أدوات إنفاذ محكمة، تتكرس لغة يومية تضعف الثقة بين المكونات، وتؤثر في الأطفال والمراهقين قبل غيرهم.
قطعت الدولة الإنترنت المحمول أياما خلال الانتخابات ونتائجها وخلال أحداث الفوضى الشرائحية وسبق أن أوقفت الخدمة عقب فرار سجناء وتصاعد احتجاجات، ما يكشف قابلية الأدوات الرقمية للتسييس المعاكس: بدل حماية الفضاء من المحتوى المؤذي للأطفال أو التحريض على الكراهية، يعاقب الجميع بالإغلاق العام. هذا ليس تنظيما، بل تعطيل يصيب الاقتصاد والمواطنين معا، ويبقي المشكلة الأخلاقية بلا حل.
في المقابل، توجد نصوص فضفاضة حول "الأخبار الكاذبة" استخدمت لتجريم التعبير العام، من غير بناء منظومة متوازنة لحماية القاصرين ولمكافحة الأذى الرقمي المباشر. الإصلاح الحقيقي لا يكون بقمع شامل ولا بتساهل كامل، بل بقانون واضح يعرف الضرر القابل للقياس ويلزم المنصات والأفراد معا بالمسؤولية.
على مستوى حماية الطفولة، تذكرنا اليونيسف بأن المخاطر لا تقتصر على الاستغلال الجنسي أو التحرش المباشر، بل تمتد إلى كل أنماط العنف اللفظي والمحتوى المؤذي الذي يضعف الشعور بالأمان. والأبحاث المقارنة تؤكد أن التعرض المنتظم للخطاب العدائي يقلص التعاطف ويزيد القابلية للوصم، ويغذي الاستقطاب بين الطبقات والفئات. هذا ليس "تشددا أخلاقيا"، بل قاعدة نفسية: ما يتكرر يترسخ، وما يطبع في الخلاصات اليومية يصبح "المعيار الجديد"، ومن هنا يبدأ التصدع في السلم الأهلي.
ماذا نفعل؟
نحتاج إلى مزيج ذكي من التربية الرقمية، والمساءلة القانونية، والتزامات المنصات. من أجل العمل على تقييد وصول القصر وإزالة الميزات الإدمانية وتقوية أدوات الضبط العائلي وإتاحة بيانات شفافة للباحثين وصناع السياسات.
على مستوى التشريع الوطني، يمكن سن قانون واضح يجرم بدقة: نشر المحتوى الخادش الموجه للأطفال والتهديد والابتزاز الرقمي والإهانة الممنهجة المبنية على الأصل أو القبيلة أو العرق أو اللغة والتحريض على العنف.
مع هذا، يحتاج القانون إلى توازن يحمي حرية التعبير ويصون النقد المشروع، ويخضع القرارات القضائية لاختبارات الضرر الحقيقي لا الانزعاج الذوقي.
اعتماد "مواثيق سلوك" للمؤثرين والشركاء التجاريين: لا إعلان ولا رعاية لمن يخرق هذه المعايير مرارا ولا أرباح من مقاطع مخالفة.
إنشاء هيئة مستقلة للشكاوى الرقمية تتلقى بلاغات الأسر والمعلمين وتصدر قرارات ملزمة زمنيا بحق الحسابات المخالفة داخل موريتانيا، مع آلية استئناف قضائي سريعة تضمن العدالة وعدم التعسف.
على المجتمع والأسرة والمدارس دور لا يستغنى عنه من إدماج "التربية على الاحترام" في المناهج: كيف نفرق بين النقد والإهانة، بين حرية الرأي والتحريض؟ هذه مهارات مواطنة رقمية، وليست كماليات.
إنشاء منصات مجتمعية محلية داعمة: خطوط مساعدة نفسية سرية للشباب المتعرضين للتنمر، وجلسات تدريب للأهل حول الضبط الأبوي، ومواد مبسطة بالعربية والحسانية حول الوقاية والإبلاغ.
شراكات مع الجامعات والباحثين لقياس المؤشرات: معدلات التعرض، أنماط الأذى، أثر السياسات الجديدة. ما لا يقاس لا يحسن.
أعرف أن البعض سيقول: "سن القوانين قد يستغل ضد الرأي المخالف"، والرد أن العلاج ليس في الفوضى، بل في دقة التعريفات والشفافية والرقابة القضائية المستقلة. نحن لا ندعو إلى شرطة للأفكار، بل إلى معيار أخلاقي قانوني يحمي الطفل والناشئ وكبير السن من خطاب يؤذي صحتهم وسلام المجتمع، ويحمل المنصات ومن يربحون منها كلفة الضرر لا جائزته.
في النهاية، الفضاء الرقمي مرآة مكبرة لما فينا: إذا تركناه لمنطق الربح الأعمى، سيعيد تدوير أسوأ ما فينا. وإذا وضعنا له حدوده الأخلاقية والقانونية، صار فرصة للتعلم والتواصل ونشر الجمال. موريتانيا، بكل ألوانها ولهجاتها وقبائلها وقومياتها، جديرة بفضاء يقوي الوئام لا يجرحه، ويصون الطفولة بدل أن يضعها وجها لوجه مع أكثر ما في العالم قسوة. سن قوانين رادعة دقيقة، وتنفيذ عادل لا انتقائي، وتربية رقمية مستمرة، وشراكات مع منصات تتحمل مسؤوليتها. هذه ليست عدة رقابة فحسب، بل وصفة حماية لسلمنا الاجتماعي، اليوم قبل الغد.
مبادرة #خلوها_تنصكل