{ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} (سورة القصص، الآيتان: 5 و6).
يعتبر الفقر ظاهرة اجتماعية ترجع أسبابها في معظم الأحوال إلى الغبن والحيف والاستغلال وسوء التسيير للموارد العامة واحتكار الثروة وتداولها بين أفراد قلة؛ ليبقى المجموع والغالبية العظمى ترزح في الفقر المدقع وتردي المعيشة والأوضاع الصعبة التي لا تطاق.
إن المال بالنسبة للمجتمع يجب أن يكون كالدورة الدموية بالنسبة للجسم يصل منها كل عضو نصيبه؛ فإذا حدث أن تجمع الدم في عضو أو خلية من الجسم واختل توزيعه الآلي بين الأعضاء كان ذلك مؤشرا على وضعية غير طبيعية يجب علاجها وإلا هلك الجسم أو اشتد به المرض في أحسن الأحوال؛ كذلك المجتمع الذي ينتشر فيه الحيف ويختل توزيع الثروات بين أفراده هو مجتمع يحتاج إلى العلاج حتى لا يؤول إلى الصراع المفضي إلى الاندثار والتلاشي.
إن غياب العدالة وتكافؤ الفرص في المجتمع يؤدي إلى حالة من الاحتقان والتوتر تنذر بالانفجار – كما أشرت إلى ذلك في حديث سابق – ولا داعي لتكراره هنا، ولكني أريد أن أنبه في هذا السياق إلى أن الظلم الصارخ الذي تتعرض له شرائح عريضة جدا من مجتمعنا في أرزاقها وفي خدماتها الأساسية من صحة وتعليم وماء وكهرباء لن يمر بسلام وسوف يشكل مظلومية تاريخية يعاقب عليها كل الضالعين فيها وإن طال الزمان وتعاقبت السنين.
إن سنة "التدافع" هي – وحدها – الكفيلة بتصحيح الأوضاع؛ لأنه متى ما كانت هناك فئة حتى لا نقول طبقة من الناس مظلومة ومهمشة ومحرومة من خيرات بلادها؛ فإن سنن الحياة وطبيعة الواقع تمليان عليها السعي في استرجاع الحقوق وإعادة التوازن وإقصاء الطبقة المتحكمة التي فيها شرذمة من "الخنازير" الذين بطروا وبشموا من المال العام والذين شسع نعل فقير يكدح لتأمين قوت يومه أشرف من قبعاتهم أو عمائمهم جميعا إذا كانت لهم قبعات أو عمائم!
إن مقولة صراع الطبقات واردة جدا في مجتمع تتفاوت فئاته ويسخر بعضه بعضا ويستغل بعضه بعضا، وتحرم فئاته من أبسط مقومات الحياة وهو الماء ناهيك عن التضييق على بعضها في الأرزاق ووسائل العيش والحرمان من خدمتي الصحة والتعليم على نحو لائق؛ فالتعليم المتاح للفقراء هو التعليم العام وكل أحد يعرف مساوئه وهناته من غياب متكرر للطواقم، وضعف في البرامج والمقررات، وعدم كفاية في البنى التربوية؛ مما يعني في المحصلة النهائية هزال وضعف شديد في المخرجات، والصحة يا لطيف! فالمستشفيات العامة مهترئة وغير مجهزة وغير كافية لاستيعاب جحافل الشعب المفقر الذي لا خيار له إلا هي.
ومما يسبب الامتعاض ويبعث على الغضب أن طغمة من أكلة المال العام الذين يمتلكون الدور والعقارات في أوربا وآسيا ومختلف بقاع العالم اشتروها بمال الشعب الموريتاني الذي سرقوه ونهبوه في غياب من أي رقيب أو مسائل هم الذين يديرون هذه المهزلة ويخرجون فصول هذه المسرحية العبثية التي تسمى تسيير موريتانيا، وهم لا يهتمون بالمنظومة التعليمية في البلاد من ألفها إلى يائها؛ لأنهم – ببساطة – لا يدرسون أبناءهم فيها، ولا يهتمون بالصحة للسبب ذاته وهو أنهم يسافرون إلى الخارج من أجل قلع ضرس.
كفى يا قوم؛ "لقد بلغ السيل الزبى" – كما يقال – إن ذهاب ألف مليار هي ميزانية الدولة في الآونة الأخيرة إلى جيوب الفاسدين من غير أن يرى لها أثر ذو بال ينفع الناس ويمكث في الأرض لمن ما تصطك منه المسامع ويفزع منه الضمير؛ لا تحدثني عن تآزر وهباتها الهوجاء التي لا تخفف من معاناة الفقراء بقدر ما تمكن المفسدين من معالجة قضمة كبيرة من المال العام في أفواههم التي لا يملؤها شيء؛ ألم تر أنهم في إطار هذا التوزيع الأهوج يؤجرون السيارات الزائدة عن الحاجة ويعبئون جيوبهم بما شاء لهم الجشع، ونسوا أنهم سيسألون عن ذلك كله إن عاجلا وإن آجلا؛ رحم الله الفاروق عمر لقد سأل القائم على بيت المال بعد خرجة عامة خرجها فقال له: يا غلام كم صرفنا، فقال له: 18 درهما، فرد عمر لقد أجحفنا ببيت مال المسلمين!.
إن مجموعات كبيرة من السيارات الفارهة توزع على شلة من الموظفين يوصفون بأنهم سامون، وهم في الواقع لا يعملون شيئا اللهم إلا سرد الأحاديث وتبادل النكت في المكاتب لا مبرر لها؛ إن رواتب هؤلاء الكبيرة وسياراتهم الفخمة حري بها أن تصرف كعلاوات للمدرسين وزيادة في رواتبهم لعل ذلك مما ينفع التعليم ويتقدم به خطوة في سبيل التحسين.
الواقع – يا سادتي – أن الميزانية تذهب في التدشينات التي لا أهمية لها، والتي هي – حقيقة – فقاعة إعلامية هدفها تضليل الجماهير تذكرني بقوله تعالى: {كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا} (سورة النور، الآية: 39).
إن الميزانية تذهب بالمجان إلى حسابات بنكية يملكها رجال ونساء هم قطب رحى هذا النظام دأبوا على الإتيان على الأخضر واليابس، ومن طبيعتهم أنهم لا يبقون شيئا (ما يفظلوا بكلام البيظان)، وبالنسبة لي ليس من طبيعتي البذاءة، ولكنني رأيت أن أوفق اسم يطلق على هؤلاء هو "الخنازير" والخنازير البرية خاصة؛ ذلك لأنهم لا يبقون على شيء، فهم يلتهمون من الأشياء ما بوسعهم التهامه وهو كثير، وما بقي يتلفونه حتى لا يستفيد منه أحد.
يقول لكم الشعب المطحون يا أيها الخنازير الأشرار التهموا بسرعة قبل أن يداهمكم الزحف الأحمر؛ ولكن عليكم أن تتذكروا أنكم تورطتم في مظلومية تاريخية تمس الأجيال القادمة ولن تفلتوا من العقاب!