في عاصمة البلاد، حيث يبتلع الإسفلت أقدام الساعين خلف قطرة ماء، وتمتد الطوابير أمام الصهاريج كأنها وقوف بين يدي قاضٍ لا يرحم، لا يزال سكان نواكشوط يعانون من عطشٍ مزمن، رغم مرور أكثر من عقد على تدشين أحد أكبر مشاريع المياه في البلاد: مشروع آفطوط الساحلي.
ذاك المشروع، الذي شُيّد تحت الأضواء وعدسات الكاميرات، ورافقه خطاب رسمي زُيّن بالأرقام الكبيرة والتعهدات الأضخم، أصبح اليوم رمزًا صارخًا على ما تعانيه المنظومة التنموية من ارتجال وتسرّع، ومن تغييب متعمد أو قاصر لعنصر الديمومة، لصالح نهم دعائي لا يشبع، ولا يُروي.
مشروع عملاق... بأثر محدود
نُفّذ مشروع آفطوط الساحلي لتزويد نواكشوط بالماء الصالح للشرب من نهر السنغال، عبر خط أنابيب يمتد لأكثر من 200 كلم، ومحطات للضخ والمعالجة، وخزانات ضخمة قيل إنها ستكفي العاصمة لعقود.
لكن النتيجة بعد أكثر من 10 سنوات؟
أحياء كاملة لا تصلها المياه إلا مرة أو مرتين في الأسبوع.
نسبة فقد مائي مخيفة بسبب التسربات وسوء الصيانة.
شبكة توزيع غير عادلة ولا عقلانية.
صهاريج وسوق سوداء تُذلّ المواطن في أبسط حقوقه.
فأين ذهبت مئات الملايين التي صُرفت؟ ولماذا تكرر الدولة نفس الأخطاء في مشاريع مماثلة؟
الدعاية على حساب التنمية
الحقيقة المرة أن المشروع لم يُنجز انطلاقًا من رؤية استراتيجية تؤسس لمستقبل مستدام، بل وُلد من رحم حسابات سياسية دعائية قصيرة النظر، استُعجلت خطواته ليرافق موسمًا انتخابيًا أو يزين خطاب نظام، فغاب التخطيط، وتراجعت الجودة، وطُمست المسؤولية.
وبدل أن يكون مشروع آفطوط رافعة تنموية حقيقية، أصبح مسكنًا مؤقتًا لأزمة هيكلية عميقة.
ولم يكن استثناءً، بل واحدًا من سلسلة طويلة من المشاريع التي تُنجز على عجل، وتنهار على مهل، ويدفع المواطن ثمنها مرارًا.
نريد قطيعة جذرية مع هذا النهج.
لقد تعب الناس من التبريرات.
تعبوا من تجريب المُجرّب، ومن انتظار الماء من مشاريع لا تُروى حتى بالوعود. ولذا، فإن المرحلة اليوم تستدعي انتقالًا شجاعًا من عقلية التدشين إلى عقلية التخطيط.
نريد أن نرى:
دراسة جدوى دقيقة قبل إطلاق أي مشروع.
تقييمًا فنيًا وماليًا شفافًا بعد كل مشروع، يُنشر علنًا.
خطة وطنية شاملة للمياه، تُوازن بين النمو الديمغرافي والقدرات المائية.
استثمارًا في الكادر البشري والمؤسسات الحاكمة لقطاع الماء.
ربطًا عضويًا بين الخدمة والحوكمة، بين الأنبوب والمحاسبة.
التضحية من أجل الديمومة
قد نتحمل عطشًا موقتًا، وانقطاعات مرحلية، إذا علمنا أن الحل قادم، وأنه حل مستدام لا مسكّن مخدر.
فالعطش الحقيقي ليس في صهريج الماء، بل في الضمير التنموي، وفي غياب التخطيط، وفي السكوت عن المهزلة المتكررة التي تضع المواطن آخر من يُستشار وأول من يُعاني.
ختامًا: من أجل أجيال لا تعيش على القطرات
إن الوطن الذي نرجو، لا يُبنى على الإسفلت فقط، بل على الإرادة، والمساءلة، والجرأة في الإصلاح.
ولا كرامة لمدينة يبيت نصفها عطشانًا تحت أضواء مشاريع لا تسقي.
ولا عدالة في دولة يُحرم فيها المواطن من ماء حياته، لأنه وُلد في حي خارج خط الكاميرا.
فلنقلها بوضوح:
كفى ارتجالًا، كفى دعاية، كفى ترقيعًا لمشاكل هيكلية.
ولنطالب جميعًا بحلول دائمة، ولو تأخرت، ما دامت ستضع حدًّا للعطش المزمن، وتُعيد للناس حقهم البديهي في الماء، لا كمنّة، بل كحق دستوري لا يُساوم عليه.