أخطاء فادحة في سياسة المملكة
قدم آل سعود نسغ الحياة لليهود، عندما حبس الحوثي عنهم الطريق من باب المندب. الحوثيون غرماء آل سعود في سنوات عجاف مضت، وإنها لسانحة يصفى فيها الحساب، مبادرة الملك عبد الله تشرعن للاحتلال، والإذن بمرور البضائع الصهيونية من الإمارات إلى تل أبيب عبر أراضي المملكة الممتدة على أغلب شبه الجزيرة العربية، تطبيع عملي واعتراف بالكيان الصهيوني، إنها خيانة للأمانة، وكفر بواح، وردة لا جدال فيها.
القبضة الملكية على الشعب السعودي شرعت في التراخي أمنيا، أرختها معاصي كبرى، كالمتاجرة بالحرمين سياسيا واقتصاديا، والتمكين للفساد الأخلاقي الذي طفق ينخر في المجتمع السعودي باسم التحديث، والمكايدة لدول عربية تحررت من الاستبداد قليلا بعد الثورات الشعبية الأخيرة، والحروب العبثية التي قادها ولي العهد محمد بن سلمان، وأسوأ ما في تلكم الموبقات التطبيع مع الصهاينة عمليا بإنقاذ اقتصادهم من الاختناق، والقعود عن نصرة أهلنا في غزة.
إن التخويف السياسي وشد حبال المصالح الاقتصادية يكبلان المستضعفين في هذا البلد المسلم عن قول الحقيقة، التي تعرفها عن الناس من لحن قولهم عندما تستدرج أحدهم ليقول لك: "إنها الليبيرالية من فوق يا حاج. روح، الله يتقبل حجك"!
مقترحات لتثقيف المسلمين ودعوة غيرهم
يتحين بعض الحجاج الفراغات بين الصلوات المكتوبة لزيارة بعض المعالم التاريخية في مكة والمدينة، كمقبرة المعلاة، ومسجد الجن وغار ثور وأحد وبدر، وغير ذلك كثير في مكة المكرمة والمدينة المنورة. ولكن الزائر هذه الأماكن لا يجد مرشدا سياحيا يعرف الناس على هذه الآثار، ولا يرى معلقات تقرأ ليحصل على المعلومات الصحيحة، ويدع عنه المغلوطة. ولا أحدثك عما يتجشمه البعض من مشاق لا طاقة له بها حين يصعد جبل النور ليرى غار حراء مثلا، كان من الأجدى أن تركب السلطات على متنه مصعدا آليا يشد بالحبال أو نحوها.
كانت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قبل أن تقلم أجنحتها في هذا العهد، تنهى الحجيج عن هذه الزيارات وتعسر الوصول إليها، وفي نيتها أنها تفعل ذلك لأن هذه المواقع ليست مطلوبة الزيارة شرعا، ثم إنها تشغل الحجاج عن أداء المناسك والتفرغ للطاعات، وهي المقاصد الشرعية للحج والعمرة. وبعدما تغيرت الأحوال وأطل الفقر بقرنيه على المملكة واحتاج ملوكها إلى الأموال لمشاريعهم "التحديثية"، فتحوا مجال الترفيه والسياحة أمام العالم، ليأتي إليها كل من هب ودب، وبما حمل الجمل، المهم أن يأتي السائح ليدفع؛ فبدأ الاهتمام بهذه المواقع الأثرية شيئا فشيئا، ولا يزال بعضها الآخر متروكا أو مهملا لم تمتد إليه الأيدي الليبيرالية. والخلاصة أنه أصبح للمواقع التاريخية شأن، ودع عنك الأقوال البالية لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد بات ذكر المواقع يتردد، ويريد محبو المال جما جما أن يمر الحجاج الميامين من هناك، فلعلهم يضعون بعض "الكافيار" فيها.
شرفات خاصة ليسمع غير المسلمين كلام الله وليشاهدوا المناسك حين تؤدى. يمكن أن تنظيم الرئاسة العامة لشؤون الحرمين ذلك في رحلات من خارج البقاع المقدسة لمن يرغب في التعرف على الإسلام، ولمن يريد أن يسمع كلام الله ثم يبلغ مأمنه؛ في خطبة يوم الجمعة، وفي أيام الحج الأكبر وفي رمضان، وفي المطاف وفي المسعى وفي غيرها. إن في الممارسة الحية للشعائر التعبدية على صعد طهرها الله من الرجس والأوثان وإن للبيت نفسه جاذبية تعمل عملها في النفس البشرية، إنها تحفر عميقا في الفطرة التي ران عليها ما اكتسب الإنسان من آثام، فلعل الله عز وجل أن يشرح ببركة المناسك قلوبا غلفا، ويسمع بها آذانا صما.
حرمان مدنيان أم ثكنتان عسكريتان؟
لا مناص من تأهيل العاملين في الحرمين الشريفين تأهيلا نفسيا وروحيا وتربويا وعلميا وأمنيا وميدانيا وفي كل مجال يحتاج إليه العمل بالبلد الأمين خدمة لحجاجه الكرام. إن الظن بأن استدعاء الشرطة والقوات الخاصة بأحذيتهم العسكرية داخل الحرمين وخارجهما لتأمين موسم الحج ظن خائب أثبت عدم جدواه. لقد أضحى الحرم بمثابة ثكنة عسكرية والزوار بمثابة معتقلين، ولكل من اصطدم هنالك بتلك المعاملة السيئة يدرك عما أتحدث عنه ويعلم ما الذي يلزم عمله.
إنه يجب في القائمين على الخدمة في الحرمين الشريفين أن يكونوا، رجالا ونساء، من طراز ملائكي الخصال، يختارون وفق مقاييس خاصة، ثم يتدرجون في معهد متخصص في هذا الميدان، له برنامج مخصوص، يدرس فيه من كان ذا كفاية في المواد المقررة. ولا يليق أبدا أن تترك الأمور للعفوية والفوضى والجهل داخل الحرمين الشريفين، أو يسمح بأن تنطبع الأعمال والمعاملة فيه بطبائع مجتمع لا يزال بمقياس الدورة الحضارية في مرحلة البداوة، وإن بدا للناس أنه يستوعب شيئا من مخرجات الحضارة الحديثة. إنه استيعاب المستهلك والتابع، لا استيعاب المتحضر المناظر للآخر، ممن يمتلك القدرة على إبداع حلول علمية لمشكلات تعترضه، أو اقتراض ما يصلحه من منتجات الحضارة الغربية، التي تجاوزت هذه القضايا التنظيمية بعيدا بعيدا.
تشتكي الذهنية السعودية من قصور بين في استيعاب الآخر، الآخر المختلف عنها والقادم من خارج المملكة؛ فيتعامل السعوديون عموما مع الغريب عن مجتمعهم بعقلية بدوية فجة لا يستهويها الاختلاف الثقافي والحضاري. أمواج من البشر تمر من بين أيديهم طوال العام تحمل بين جوانحها تراكما ثقافيا وحضاريا لا مثيل له في العالم، يطفح بكل ما عرف الإنسان عن الحياة الدنيا من علوم كفيلة بإخراج موسم الحج والعمرة أحسن إخراج. لا تهتم الهيئة التي تعنى بشؤون الحرمين بالاستفادة من هذه الخبرات على ما يظهر، وتستمر في العمل بما تراه أنسب لخدمة الحجيج، الظانين بالمنظمين ظن السوء إلا في ما ندر. ولعل في القرب حجاب، كما يقول العارفون، لا يمنعن الزائر، خلافا للمجاور، أن يرى ما لا يراه سدنة البيت العتيق.
مقترح الإدارة الإسلامية المشتركة للحرمين - وليس لبلاد الحرمين، حتى يطمئن من يملك في أرض الحجاز أن المقترح ليس تقليصا لسيادة الدولة على أراضيها - مقترح مفيد جدا، وحل جزئي سريع يقلص من أعداد الضحايا الأبرياء في كل سنة، ويريح ضيوف الرحمان حين يؤدون المناسك على بقعة طاهرة كانت مشتركة بين الأمة تاريخيا، وستبقى كذلك دوما ولو تفرق المسلمون سياسيا، باعتبار أن البيت العتيق قبلتهم الروحية، ومهوى مشاعرهم الجبلية، تؤدى فيه شعائر الركن الخامس من ديانتهم الإسلامية.
الحافلات وتوجس الأمن والجمارك من ضيوف الرحمن
الحافلات متثاقلة وتقطع المسافة بين أم القرى وطيبة في نصف يوم، وفي الحافلات أرب لذوي الميول الرأسمالية، تعطل بلا شك التفكير الجاد في حل مشكلة التنقل بين الحاضرتين، ليتخفف الحجاج من المشقة وقد بعدت بهم الشقة، وليضعوا عنهم شيئا من الأعباء المالية. القطارات الحديثة سريعة وآمنة ورفيقة بالبيئة، كما أنها مريحة وعملية لنقل البضائع والأشخاص وصهاريج الماء المبارك زمزم من مكة إلى المدينة. ولا أدري لم لم يستثمر الساسة السعوديون في هذا القطاع أموال الشعب، كما استثمروا أموالا طائلة في النقل البري فمدوا طريقا مزدوجا حديثا تسير عليه مراكب المستثمرين؟
في يوم العودة إلى الوطن، استقللنا الحافلات التي كانت معنا على ميعاد بعد صلاة العشاء، وبقينا ماكثين فيها قرابة الساعة ننتظر الأمن السعودي ليسلمنا الجوازات المحجوزة لديه منذ أن وطئت أقدامنا جدة. ولما استلمنا الجوازات منع على أي منا النزول من الحافلة، حتى ذوي الحاجات من كبار السن ومرضى السكري لم يجدوا مع الغلق المحكم منفذا لينزلوا فيقضوا حاجاتهم. يقول الشرطي للركاب: "ما بقدر عندي تعليمات"، ولم يسمح إلا لرجل مريض ملحاح بالنزول مع مرافقة الشرطة له إلى بيت الخلاء! إنه التوجس من التفلت للإقامة في المملكة بلا رخصة، أو هكذا بدا لي المقصد. المهم أن الفرج جاءنا بإعطاء الجمارك في المطار إشارة انطلاق الحافلات من الفندق لتبدأ رحلة العودة إلى الوطن.
ولما وصلنا مطار المدينة المنورة، مطار الأمير محمد بن عبد العزيز، وكل المرافق تسمى بأسماء الأمراء والملوك، وكأنه لا يوجد من بين الشعب السعودي من يستحق تخليد ذكراه لعبقرية كانت لديه، أو لإنجاز أفاد به أمته، أو لعمل مبرور سبق به غيره... ففي هذا المطار، حبسنا ساعة أخرى في زنزانة الحافلة، ولولا إلحاح الناس على الأمن أن يفك قيودهم ليستريحوا في المراحيض ما حل لنا باب الحافلة، وفي كل مرة يأتي إلينا موظف حديث الأسنان فيأخذ الميكرفون من مقعد السائق ويعتذر عن الإطالة ويدعونا إلى مزيد من الصبر، فقلت لأحدهم ممازحا: "لقد صبرنا عليكم شهرا كاملا، فكيف لا يمكننا الصبر لساعات معدودات"؟
لم تنته معظم الإجراءات إلا وأذان الفجر يصدح من المكبرات المعلقة قرب المصليات في المطار. وسرعان ما استعد الحجاج للوضوء والصلاة، وما كدنا نلج الميضأة حتى أدهشنا ضيقها وضيق قاعة الصلاة بجوارها، حتى الماء في بيت الخلاء كان مقطوعا. فقارنا أروقة المطار ومحلاته الفسيحة بذلك المكان فأدركنا الفرق بين المرفقين، وأدركنا معها أيضا الذهنية التي خططت للمحلات وللمصليات في مطار أقدس مدينة إسلامية.
أهي مكاره أحاطتها الحكمة الإلهية بالحج ليختبر الله سبحانه نوايا من قصد بلده الأمين يريد غفرانه والجنة، وقد بذل من أجل ذلك كل ما يستطيع من قرابين؟ مغانم كثيرة أخفاها المولى تبارك وتعالى عنا في الحج كما أخفى التبر بين التراب. ولله في تدبير الأمور حكم بالغة.