مطلع أغسطس عام 2019، تسلّم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني مقاليد الحكم، والبلاد حينها تحت وطأة موروث سياسي واقتصادي واجتماعي ثقيل، وإن بدا مستقرًّا في مظهره، إلا أن الحقائق كانت تنبئ بحاجة ملحة إلى إصلاح هادئ وعميق.
لم يكن الرئيس غريبًا عن مفاصل الدولة، وكان ان اختار أن يبدأ عهده بنغمة مختلفة؛ لا صخب فيها، ولا ضجيج بل انسياب في القول واتزان في الفعل، فكان أول ما أرساه هو مناخ التهدئة، حيث تبدّلت نبرة الخطاب الرسمي، وخفّ وقع التنافر السياسي، وتقدمت الدولة خطوة إلى الأمام في اتجاه مصالحة شاملة مع مواطنيها، ومع ذاتها أيضًا..
منذ اللحظة الأولى، بدا أن المسحة الأخلاقية ستكون جزءًا بارزا من معالم الحكم الجديد؛ وأن الإخلاص لقيم العدالة والسكينة الاجتماعية مقدّم على إغراء الإنجاز الدعائي أو الاستعراض..
مدّ الرئيس يده للمعارضة، وأطلق في البلاد روحًا من التفاهم لم تعهدها في تاريخها المعاصر إلا نادرًا، فبدأت الثقة تُبنى، لا من خلال تعهدات ترفرف في الخطب، بل من خلال سياسات اجتماعية ملموسة، تستهدف الهشاشة والفقر وتضع الإنسان في صلب الاهتمام.
وهكذا برز مشروع طموح، لمساعدة الفئات الضعيفة، تجسّد في “تآزر” وأخواتها، التي لم تكن مجرد منصات إدارية جامدة، بل كانت تجليا لرؤية متقدمة ترى في العدالة الاجتماعية شرطًا للاستقرار ومقياسًا لجدارة الحُكم.
وجهت الدولة دعمها إلى من هم في أمسّ الحاجة إليه، وأُعيد النظر في أنظمة التعليم، خاصة في مراحله الأولى، لاستعادة روح المدرسة الجمهورية، تلك التي تتجاوز التفاوتات، وتمنح الأمل في الصعود الاجتماعي والكرامة والمساواة..
ورغم أن حكم الرئيس غزواني جاء في زمن مضطرب عالميًا، حيث تزامنت سنواته الأولى مع جائحة عاتية عصفت باقتصادات العالم، ثم أعقبتها حروب ونزاعات أثرت في سلاسل الإمداد وأسعار السلع، إلا أن موريتانيا تمكنت من التماسك، وحافظت على قدر من الاستقرار المالي والنقدي، بفضل سياسات حذرة، وتوجيه دقيق للموارد، واستفادة من موقعها الجغرافي وثرواتها المعدنية والبحرية.
وهكذا صار الاقتصاد الموريتاني في عهد غزواني اقتصادًا يقاوم العواصف بهدوء، دون مبالغات، ولا ترف غير محسوب. ومع أن الطموحات كانت – ولا تزال – كبيرة، والامال جسيمة؛ فإن المقاربة التي اعتمدتها الدولة اتسمت بالواقعية والتدرج، دون أن يغيب عنها البعد الإصلاحي، خاصة في مجالات الجباية والشفافية والسعي لتفعيل آليات الرقابة على المال العام..
أما على مستوى السياسة الخارجية، فقد استطاعت موريتانيا المحاقظة على علاقات متوازنة مع مختلف الشركاء، مؤسسة لدبلوماسية تتسم بالهدوء والاحترام، بعيدة عن الاستقطاب الحاد، وقائمة على مبدأ المصالح والاحترام المتبادل. وهكذا استعادت البلاد حضورها في ملفات إقليمية كانت قد انسحبت منها أو خفت صوتها فيها، خصوصًا في قضايا الساحل، والتعاون المغاربي، والعلاقات مع الجوار الإفريقي والعربي؛ ورممت علاقاتها مع دول وازنة في المنطقة والعالم، ولم تقبل يوما التخلي عن دعم القضايا العادلة وأولها القضية الفلسطينية..
لم يسع الرئيس غزواني إلى تقديم نفسه كمخلّص، ولا كزعيم ملهِم بالمعنى الكلاسيكي؛ - رغم توفر ما يبرر ذلك؛ بل فضل أن يتقدم كمؤتمن على مستقبل بلد، يزرع بهدوء، ويرقب النماء بعيون متروّية، يدير الدولة بمنطق البناء الهادئ لا الهدم المتعجل، ويزن الخطوات بمكيال الزمن لا بمزاج اللحظة.
واليوم ونحن نقرأ حصيلة ست سنوات من هذا العهد، فإن التقييم الموضوعي يستوجب الاعتراف بأن طريق الإصلاح الحقيقي قد بدأ، وأن الرؤية العامة التي أُطلقت قد أرست أسسًا يمكن البناء عليها؛ وهي رؤية تراهن على الإنسان، وتحترم عقل المواطن، وتبحث عن شرعية الفعل والإنجاز لا شرعية الصوت المرتفع والضجيج الفارغ..