حين يضع شخص تافه أو مجموعة من التافهين صورة الرئيس وعليها عبارات التمجيد أو هتفوا نصرا.. نحن خلفك.. إلخ، وتجد هذه الأفعال والأقوال تجاوبا رسميا ودعما ماديا أكثر من التعاطي مع مشاكل وطن وهموم شعب يرزح تحت مشاكل الماء والكهرباء والصحة والتعليم.
فإننا ندرك أننا في زمن الفوضى والعبث.. حين يكون مقرر ميزانية بلد يتعلق بها مصير شعب بأكمله لا يفرق بين الضرب والطرح ولا يعرف معني الصادر ولا الوارد، فإننا ندرك أننا في زمن الفوضى والعبث.
وحين يخرج التافهين ويتحدثون في السياسة والاقتصاد والدين والثقافة والفكر وغير ذلك من مجالات الحياة المتنوعة، بلا علم ولا فكر ولا قيم أو أخلاق؟ فإننا ندرك أننا في زمن الفوضى والعبث..
وحين نصبح كل يوم على فضيحة وزير أو مدير نهب مئات الملايين ولا يساءل أحد، فإننا ندرك أننا في زمن الفوضى والعبث.. وحين تحرق مئات الأطنان من المواد الغذائية بعد تكديسها سنوات وهي موجهة للضعفاء والفقراء ولا يساءل أحد، فإننا ندرك أننا في زمن الفوضى والعبث..
وحين يضبط عشرات المتهمين بتهريب المخدرات وحبوب الهلوسة والأدوية المزورة وتزيف العملات وتتحول قضاياهم لمجرد إلهاء شعب عن نهب ممتلكاته، فإننا ندرك أننا في زمن الفوضى والعبث..
وحين نجد أن من احتضنتهم هذه البلاد وجعلت منهم أطر بعد أن كانوا حفاة عراة وأسندت إليهم المناصب يكون قضاء عطلهم على أرض وطنهم والتي هي من أموال هذا الشعب تكرم منهم، فإننا ندرك أننا في زمن الفوضى والعبث..
وحين تكون الأبواب مفتوحة أمام الغوغاء والخنثويين والمطبلين والمزمرين وتكون مغلقة أمام مواطن يستجدي حقه أو عدالة فقدت، فإننا ندرك أننا في زمن الفوضى والعبث..
لقد صنع النظام في موريتانيا عالم جديد يسمي عالم التفاهة والفوضى والعبث، وصار يتعاظم ويتعملق وينتشر، بل يسود، إنه نظام العبث والتفاهة والسذاجة، كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف الكندي المعاصر آلان دونو في كتابه "نظام التفاهة" أو النظام الاجتماعي الذي تسيطر فيه طبقة الأشخاص التافهين على معظم مناحي الحياة، وبموجب ذلك يتم مكافأة الرداءة والوضاعة والتفاهة بدلاً عن الجدية والمثابرة والجودة في العمل.
النظام اليوم في موريتانيا صار قائماً ومعتمدا على هذا النظام، بل إنه صنعه صناعة، ودفعه دفعاً ليسود ويسيطر. فأين ما وليت وجهك، شرقاً أم غرباً، أم أي اتجاه رغبت، فإنك تجد جماعة من التافهين تتقدم المشهد في الثقافية، والسياسية، وللفنون، إلى آخر قائمة مجالات الحياة المتنوعة، التي تلوثت بتلك النوعية من التافهين، إن صح وجاز لنا التعبير.
هذا الواقع الحاصل دفع أحياناً كثيرة، البعض، إلى الاعتقاد بأن المال أصبح هو المعيار الأول، إن لم يكن الأوحد، فيما نسميه بالنجاح. أي إذا أردت أن تكون ناجحاً في ظل هذه الظروف المستجدة، فلا سبيل ولا مسلك إلا عبر المال. بمعنى أكثر وضوحاً: كلما استطعت جمع الكثير من المال بطرق منحطة ورذيلة، كلما ارتقت درجتك في المجتمع الذي تعيش فيه، لأنه أصبح مجتمعاً مبتلى بالتفاهة، من قمة رأسه إلى أخمص قدمه.
وإن تفحصت عالم الثقافة، فستجده مليئاً بتفاهات تجوبه بلا حدود، عبر كاتب هنا أو راوٍ هناك أو شاعر في موقع ثالث. وتكون بضاعتهم رائجة مكتسحة، والإقبال عليها غير منطقي. والأمر يتكرر في عالم الفن والسينما والمسرح. ولن نبالغ إن قلنا إن التفاهة اكتسحت عالم المال والصناعة، فصار كل رجل أعمال تافه تافه لا يقدم ولا يؤخر كثيراً، هو من يكتسح السوق.
وبالمثل في عالم السياسة وعالم البحث العلمي وعالم الجامعات والإعلام بوسائله المتنوعة، وعوالم أخرى عديدة لم تسلم من ذبذبات التفاهة المتكاثرة والمتعاظمة في الوقت ذاته.
عالم العبث والتفاهة إذن، وبالدعم والتأييد من النظام والنشر والإعلام، كسر القيم والمعتقدات والثقافات والأعراف، وجعل الحياة بلا ضوابط ولا حواجز ولا موانع، سواء كانت على شكل تعاليم دينية أو أعراف وقيم مجتمعية وأخلاقية، ودفع بالمجتمع الموريتاني للانقياد الأعمى نحو هذا العالم، عبر تزيينه وتيسير الولوج إليه، وأنه لا شيء في هذه الحياة يستحق بذل جهد وفكر ووقت من أجله، لأن الحياة سهلة يسيرة، وبالتالي ليس هناك ما يدعو لإضاعة متعة الاستمتاع بها!
وهنا ندرك نظريا وعمليا إننا نعيش عصر العبث والتفاهة أو عصر الرويبضة الذي حذرنا منه نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم مما يجعلنا ننبه عليه حين نبدأ نراه ونعايش رموزه، كما قال عليه الصلاة والسلام: "سيأتي على الناس سنوات خدّاعات يُصدق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة..".
ألم تخرج آلاف الرويبضات تتحدث في السياسة والاقتصاد والدين والثقافة والفكر وغير ذلك من مجالات الحياة المتنوعة، بلا علم ولا فكر ولا قيم أو أخلاق؟ هذا هو فعلاً عصر الرويبضات أو عصر التفاهة بلغة العصر.. فماذا نحن فاعلون؟