في ولاية لعصابة، وتحديدا في محيطها الشمالي، تتربّع واحة "ابروده" كإحدى أقدم الشواهد على عمق الجذور وامتداد الحضارة في هذا الجزء العريق من الوطن.
واحة ابروده ليست مجرد واحة تسكن أطراف الرمال، ولا مجرد بستان نخيل يمد ظلاله للسائرين، بين رمال لعصابه وهضاب تكانت بل صرح تاريخي موثق، تكلّلت ملامحه بالإحصاء الرسمي الذي أجراه المستعمر الفرنسي سنة 1936 م، والذي اعتُمد لاحقا سنة 1940 م كأول توثيق مكتمل لواحات المنطقة.
تمثل واحة ابروده ثاني أقدم الواحات في ولاية لعصابة بعد واحة أهل عبد الله، وتُعد من الواحات التي لم تنشأ صدفة، بل تأسست على بصيرة من أهلها، وعلى وعي بحكمة التوطن حول الماء والنخيل في بيئة جافة تتطلب البقاء بالقرب من الموارد الحيوية.
لقد شكلت هذه الواحة عبر التاريخ مركز جذب سكاني وزراعي، كانت فيه النخلة ليست فقط مصدرا للغذاء، بل رمزا للكرامة والاستقرار والتجذر، وشاهدا على أن الإنسان في هذه الأرض عرف كيف يتعامل مع قساوة الطبيعة، ويجعل من الرمال والصخور فضاءً خصبا.
في ثلاثينيات القرن التاسع عشر وحين أجرى الحاكم الفرنسي آن ذاك الإحصاء الرسمي للواحات، لم تكن "واحة ابروده" غائبة عن ذلك السجل، بل وردت فيه بوصفها واحة قائمة مزدهرة بالنخيل والسكان والأنشطة الزراعية، ما يؤكد مكانتها وأصالتها. وقلّما حظيت واحات بلادنا بمثل هذا التوثيق المكتمل في تلك الحقبة، مما يضفي عليه أهمية استثنائية كمصدر تاريخي.
واحة ابروده لم تكن مجرد مساحة مزروعة، بل كانت كذلك حاضنة لقيم التآزر والانتماء والكرم. شكلت عبر العصور موئلاً للعلماء، ومنطلقا للرحالة، ومقاما للزوار الباحثين عن ظل وطمأنينة في أحضان النخيل. كما كانت شاهدة على محطات من المقاومة، وعلى صبر الإنسان الموريتاني في وجه التغوّل البيئي والبشري.
إن الحديث عن "واحة ابروده" اليوم ليس ترفا خطابيا، بل هو دعوة صادقة إلى رد الاعتبار لهذا الموروث البيئي والتاريخي، وإلى توثيق ما تبقى من معالمها ومآثرها. كما أنها مناسبة للتنويه بأهلها الذين ظلوا يحافظون على الوشائج القديمة، ويُورّثون أبناءهم ذاكرة الأرض وشرف الجذور.
إن ساكنة ابروده وهم يثمنون عاليًا الجهود الكبيرة التي يبذلها القائمون على مهرجان التمور الدولي في نسخته الرابعة بمدينة كيفه، وما رافق ذلك من اهتمام متزايد بالواحات الموريتانية وتاريخها ومنتجاتها، فإنهم يغتنمون هذه المناسبة لتوجبه نداءً ملحًّا إلى الجهات المشرفة على المهرجان، بضرورة منح "واحةابروده" الجائزة الخاصة بها، بصفتها ثاني أقدمِ واحة مسجلة رسميًا في ولاية لعصابة – بعد واحة أهل عبد الله – كما ورد في إحصاء الحاكم الفرنسي سنة 1936م، والذي اعتُمد لاحقًا كوثيقة مرجعية فريدة في تاريخ الواحات. مؤكدين في الوقت ذاته أن منح هذا الاعتراف الرسمي ضمن فعاليات مهرجان التمور لا يمثل فقط إنصافًا مستحقًا لتاريخ موثق، بل سيكون خطوة رمزية قوية تعكس جدية المهرجان في تثمين إرث الواحات، وتكريس ذاكرة النخيل بوصفها جزءًا من الهوية والتنمية معًا.
وما أجدر "واحة ابروده" أن يحتفى بها، وهي التي ظلت شاهدة على الاستقرار والإنتاج، وجامعة بين ظلال النخيل وعبق الكفاح في وجه الزمن والجدب.
ومهما يكن فإن "واحة ابروده" تظل إحدى علامات العراقة في لعصابة، وشاهدا حيًّا على عبقرية الإنسان حين يصنع من الجدب جنّة، ومن العراقة عنوانا للهوية.
وما توثيق المستعمر إلا دليل على ما كانت عليه من ازدهار وتأثير، ومَن كانت له ذاكرة كتلك، فله الحق أن يفخر، وأن يحتفي بها.