على مدار الساعة

عمو! عمو! بابا سرقك

22 يوليو, 2025 - 14:31
بقلم: الحاج أحمد إديجبي

الزمان صيف سنة 1989، المكان، زقاق صغير من أزقة حلب القديمة في سوق القلعة، حيث تختلط الروائح العتيقة برائحة الحبر والورق، كان هناك محل يبيع الكتب والقرطاسية، لكنه كان يخفي خلف واجهته الهادئة نشاطاً غير مشروع: المتاجرة في العملة الصعبة. كان صاحب المحل رجلاً معروفاً بين أوساط الطلاب الموريتانيين الذين يتوافدون إلى سوريا للدراسة، ويعرفون طريقهم إليه حين يحتاجون إلى تصريف الدولار لليرة السورية، وكانوا يدعونه "لخظر" نسبة للون الدولار.

 

كان "التعامل" يتم بخطة ذكية وبعيدة عن أعين الرقابة، طريقة تحفظ السر وتمنح شعوراً بالأمان. يدخل الطالب المحل وكأنه يبحث عن كتاب. يضع الدولارات في جيب البنطال الخلفي، ثم يُظهر لصاحب المحل المبلغ على الآلة الحاسبة. يقوم الأخير بحساب المقابل بالليرة السورية، ويجهّز المبلغ نقداً. وبينما ينشغل الطالب بتأمل الكتب على الرفوف، يتسلل صاحب المحل بخفة، يسحب الدولارات، ويضع مكانها الليرات دون أن يلحظ أحد.

 

لكن ما لم يكن في الحسبان هو أن ذلك اليوم سيحمل مفاجأة، مفاجأة من فم طفل لم يتجاوز الثالثة من عمره.

 

كان ابن صاحب المحل موجوداً صدفة، جالساً في زاوية المحل، يلهو ببراءته. وربما لم يكن يدرك تماماً ما يجري، لكنه كان قد تلقّى من والده دروساً واضحة وصريحة: "السرقة حرام بابا، من يأخذ ما ليس له دون إذن فهو سارق". وحين رأى والده يمد يده إلى جيب الزبون ويسحب المال، لم يصمت، لم يتردّد، لم يفكر في العواقب أو في "السر المهني"، بل صاح بصوت نقيّ كصفاء قلبه: "عمو! عمو! بابا سرقك!"

 

تجمّد الزبون في مكانه، تسمر الأب كذلك، يا لها من لحظة كأنها الدهر بكلكله! لحظة واحدة كفيلة بأن تقلب حياتهما رأسا على عقب... كان الشارع أمام المحل يعج بمخابرات النظام التي لا تخفي هويتها، نظرات مستفزة ومسدس محشور بين البنطال والجسم أعلى الورك والتشديد على حرف القاف نطقا..

  

بالطبع لم يكن الأب يسرق فعلياً، بل كان يستبدل العملة، لكن الطريقة المشبوهة والسرية، جعلت حتى طفله يراها خيانة.

 

هنا يقفز إلى الذهن سؤال مهم:

أي رسالة نغرسها في أبنائنا إذا لم نكن نحن أول من يلتزم بها؟

 

هذا الطفل الصغير لم يكن يعرف تعقيدات السوق السوداء، ولا سياسات النقد، ولا مسوغات "التعامل الخفي"، لكنه فهم شيئاً بسيطاً: أن ما يُؤخذ خفية من جيب الآخر هو سرقة.

 

المشهد يحمل أكثر من درس:

للآباء: لا تغرسوا في أبنائكم القيم بالأقوال وتنسوها في الأفعال، فأنقى الأصوات هي التي تفضح النفاق.

 

للمجتمع: إن الأطفال مرآتنا، هم مراقبون صامتون، يتعلمون أكثر مما نعتقد، ويعيدون علينا ما نقوم به، لا ما نقوله.

 

للسلطات: لا تخرقوا قانونا أنتم حماته، فحينها تجبرون الناس على خرقه أيضا، فيلجأون للعمل في الظلام نتيجة أنظمة عمياء متشددة... أو بسبب واقع اقتصادي خانق، ليصبح الالتفاف على القوانين واقعًا، وتُنشأ أجيال تُربّى على التناقض بين القانون والأخلاق.

 

في النهاية، لم تكن صرخة الطفل سوى جرس تنبيه:

أن البراءة قادرة على كشف الزيف، وأن القيم لا تعيش طويلاً حين تُربّى في بيت ولا تُمتثل خارجه.

 

ربما توقف الأب عن خطته في ذلك اليوم، وربما تعلّم الطفل درساً في الصدق والشجاعة... وربما، فقط ربما، بدأت تلك الصرخة البريئة تغييراً صغيراً في ضمير رجل أو ربما أكثر.. من يدري؟