في منطقة تتزاحم فيها التحديات وتتداخل المصالح، وتواجه اضطرابات أمنية وتنموية متصاعدة، اختار الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني نهجًا مغايرًا، قوامه: أداء رصين، رؤية استراتيجية، وشراكات مبنية على الندية والاحترام المتبادل.
منذ توليه مقاليد الحكم، أسس سياسته الخارجية على المصلحة الوطنية، دون مزايدات، وحرص على استقلالية القرار السيادي، مما مكّن موريتانيا من ترسيخ حضورها الإقليمي والدولي بثقة واتزان.
وقد شكلت زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية محطة مفصلية في علاقات البلدين، حيث أعادت موريتانيا إلى دائرة الاهتمام الأمريكي بوصفها حليفًا ديمقراطيًا مستقرًا في منطقة تعاني من انفجارات سياسية متلاحقة. وأسفرت اللقاءات والاتفاقيات عن فتح آفاق جديدة في التعاون الأمني والاستثماري، كما أكد لقاء الرئيس مع ممثلي أفراد الجالية، أن موريتانيا ليست دولة مصدّرة لطالبي اللجوء، بحسب التصنيفات الغربية، نظرًا لمناخ الحريات والانفتاح السياسي والإعلامي الذي ترعاه قوانينها وخياراتها الوطنية.
وكانت زيارة رئيس الوزراء الإسباني الأخيرة إلى نواكشوط، مؤشرًا لافتًا على تصاعد مكانة موريتانيا في الشراكات الأمنية والاقتصادية مع أوروبا. فقد عبّرت مدريد عن ثقتها في السياسة الموريتانية حيال قضايا الساحل والهجرة والتنمية وحقوق الإنسان، وتم توقيع اتفاقيات في مجالات واعدة، ما يؤشر إلى تطور العلاقة من تعاون تقليدي إلى شراكة استراتيجية متقدمة.
وفي منطقة الساحل الإفريقي، التي تحولت إلى بؤرة للأزمات والانقلابات، انتهجت موريتانيا سياسة واضحة تقوم على عدم التدخل، وتغليب الحوار، واعتماد الوساطة بدل الاصطفاف. ومع الجارة مالي، التي شهدت تحولات سياسية عميقة، ظلت نواكشوط قريبة بما يكفي للتفاهم، وبعيدة بما يكفي عن التورط، مؤدية دورًا دبلوماسيا نادرًا في محيط يتسم بالتوتر والصراعات.
كما وقفت إلى جانب الشعب المالي إنسانيًا، وكانت منفذه البحري والبري الوحيد خلال الحصار الذي فرضته المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (ECOWAS) مجسدة مبدأ حسن الجوار والتضامن.
ولم تنزلق موريتانيا في فخ الخطابات التي تروج، انطلاقا من أغراض شخصية أو سياسية، لفكرة التفريط في جزء من أراضيها، وهي مزاعم لا تستند إلى الحقيقة والواقع، ولا تخدم سوى محاولة تأجيج صراعات الجوار.
أما في علاقتها بالجارين الكبيرين، المغرب والجزائر، فقد نجحت موريتانيا في الحفاظ على خيط دقيق من التوازن والاحترام المتبادل، والحياد الإيجابي فنسجت علاقات طبيعية مع الرباط، ومع الجزائر، مما جعلها شريكًا مقبولًا لدى الطرفين، وموقعًا آمنًا في خريطة الاصطفافات الإقليمية.
داخليًا، تميّزت سياسة الرئيس غزواني بانحياز واضح للفئات الأكثر هشاشة، عبر إطلاق برامج اجتماعية واسعة من خلال وكالة "تآزر"، التي عملت على تقليص الفوارق من خلال الدعم المباشر للمواطن البسيط، وفئة الشباب، وفي هذا السياق، تم تشييد مساكن اجتماعية، وصرفت مساعدات نقدية مباشرة لمئات الآلاف من الأسر الفقيرة، كما شملت السياسات الاجتماعية تعميم التأمين الصحي المجاني للفئات الهشة وكبار السن، ورفع الرواتب، وتوسيع فرص التشغيل، وزيادة منح الطلاب داخل الوطن وخارجه، وإرساء دعائم "المدرسة الجمهورية" التي تعيد الاعتبار لمبدأ المساواة في التعليم.
وبذلك وُضعت لبنات صلبة لبناء عدالة اجتماعية لتعزيز اللحمة الوطنية، التي طالما ظلت مطلبًا مؤجلاً.
سياسيًا، نجح الرئيس غزواني في كسر الحواجز بين الفرقاء السياسيين، تمهيدا لفتح قنوات الحوار دون محظورات، واضعًا حدًّا لخطابات التأزيم والتخوين، فتراجع منسوب التوتر السياسي والإعلامي، ليشارك مختلف الفاعلين في تقديم رؤاهم ومقترحاتهم، من أجل حوار وطني شامل لن يترك أحدًا خارج مسار التوافق الوطني.
وهكذا، تواصل موريتانيا مسيرتها في ظل استقرار بات يُعد استثناءً في محيط إفريقي يتسع فيه قوس الأزمات، ويشتد فيه لهيب الهرمتان الساحلي سياسيًا وأمنيًا واجتماعيًا.
ومع كل هذه التحديات، يبقى الأمل معقودًا على هذا النموذج الهادئ من البناء الذي يزرع الثقة في الحاضر، ويرسم ملامح مستقبلٍ واعد، تمضي فيه موريتانيا بثبات وتشُدُّ خيوط الاستقرار بصمت، وفي خضم هذا المشهد الذي تمر به منطقة الساحل اختم معكم باستحضار الحديث النبوي الشريف: «من أصبح منكم آمِنًا في سربه، معافًى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا» رواه الترمذي (2346) وصححه الألباني.