من مظاهر الخلل العميق في منهجية العمل الحكومي في بلادنا، أن الدولة – بمؤسساتها المختلفة – لا تتفاعل مع القضايا بحسب أهميتها الموضوعية أو ارتباطها المباشر بحياة المواطنين، بل وفقاً لدرجة ارتباطها بالتوجيهات العلوية، وبالذات ما يصدر منها عن فخامة رئيس الجمهورية. وهو أمر لو بقي في إطار التنسيق والتنفيذ المعقول، لكان مقبولًا، لكنه في الممارسة الواقعية يتحول في كثير من الأحيان إلى انشغال مفرط بالقضايا الثانوية على حساب المصالح الأساسية للمواطن.
ومثال ذلك ما نراه هذه الأيام من تعبئة وزارية وإدارية شاملة من أجل تطبيق توجيه رئيس الجمهورية حول قضاء كبار المسؤولين لعطلتهم السنوية داخل الوطن، توجيهٌ في ظاهره حسن المقصد ويهدف إلى دعم السياحة الداخلية وتعزيز الشعور بالانتماء الوطني، لكن طريقة التفاعل معه تعكس خللًا عميقًا في ترتيب الأولويات.
فقد شهدنا وزارات تعقد اجتماعات خاصة لتطبيق هذا التوجيه، ووسائل إعلام رسمية تبث تقارير حول العطلة كأننا بصدد ملف سيادي أو تحدٍّ تنموي! يحدث كل ذلك في وقت تُواجه فيه العاصمة نواكشوط أخطارًا بيئية وإنسانية حقيقية مع دخول موسم الأمطار دون أدنى استعداد ملموس، في ظل غياب شبكة صرف فعّالة، وتجاهل لمناطق كاملة تعاني من اختناق مائي سنوي أصبح من المسلَّم به، دون أن يُحدث ذلك أي استنفار حكومي جدي.
فهل يُعقل أن تكون العطلة أولوية على حساب الأمطار التي تُغرق الأحياء وتُهدد الأرواح؟
وهل يصح أن تنشغل الحكومة بمكان قضاء عطلة موظف، وتترك دون خطة واضحة موسمًا زراعيًا يشكل فرصة استراتيجية لبلد يعاني من تبعية غذائية خطيرة؟ وأين التحرك الوزاري المتزامن لتحويل موسم الأمطار في الداخل إلى ورشة وطنية للتنمية الريفية، ودعم المزارعين، وتحفيز الاكتفاء الذاتي؟
لا يتعلق الأمر هنا بانتقاد التوجيه الرئاسي في حد ذاته، فهو – كما أشرنا – يحمل بُعدًا وطنيًا ورمزيًا إيجابيا. لكن المشكلة تكمن حين تُختزل جدية الدولة في مقدار تفاعلها مع التوجيهات الرمزية، بدل أن تُقاس بمدى استجابتها لمتطلبات الواقع واحتياجات المواطن اليومية.
لقد شاهدنا في تجارب دولية عديدة أن الحكومات التي تُحسن ترتيب أولوياتها، وتربط قراراتها بالاحتياجات الفعلية للمجتمع، تحقق نتائج ملموسة على الأرض، حتى وإن لم تكن دعاية إعلامية تُرافق كل خطوة. أما في حالتنا، فإننا كثيرًا ما نرى الجهد يُبذل في التجميل والترويج بدل الإنجاز الحقيقي، ويتحول العمل الحكومي إلى حالة رد فعل دائم لتوجيه أو خطاب، لا إلى عمل استباقي مدروس ينبع من صميم المسؤولية الوطنية.
إن أخطر ما قد يصيب أي منظومة حكم هو أن تختل فيها بوصلة الأولويات، ويغيب فيها الحس العملي بالاحتياجات الحيوية للمواطنين، لتُستبدل بقضايا شكلية يُضفى عليها طابع سياسي وإعلامي، في الوقت الذي تتفاقم فيه المعاناة اليومية بصمت، دون من يلتفت إليها بجدية.
إننا لا نطلب من الحكومة سوى أن تضع الإنسان في صدارة اهتماماتها، وأن تُخصص اجتماعاتها وطاقتها لمواجهة التحديات التي تمسّ كرامته ومعيشته وأمنه الصحي والغذائي، قبل التفكير في المكان الذي سيقضي فيه مسؤول عطلته.
فمن أجل من وجدت الحكومة أصلًا، إن لم تكن من أجل المواطن؟