على مدار الساعة

مقامات المختلفين حيال القضايا الإنسانية

7 يوليو, 2025 - 13:42
بقلم: عز الدين مصطفى جلولي - كاتب وأستاذ جامعي جزائري - djellouli73@hotmail.com

في الاجتماع

في الرؤية المادية للظواهر الاجتماعية ذات الجذور الإيمانية، تزل أقدام كثير من الباحثين ممن يحاول مقاربة السلوك الاجتماعي ومعالجته، ومن ثم يقعون في بوار التوصيات وكذا السياسات التي تبنى عليها. فقضية مثل الحجاب تتعلق بفريضة إسلامية قبل أن تكون زيا تقليديا يخضع لتغير الظروف؛ لذلك لا تأتي المقاربات على ذكر هذا البعد من قريب ولا من بعيد، على الأقل كي يفهم القارئ الكريم مجتمعا مسلما كالجزائر كيف يفكر، ويقينا أنه لا يفكر ماركسيا كما هو شأن أغلب من تخرج من الجامعات العلمانية.

 

إنه بين السعي نحو امتثال تام بتعاليم الإسلام وبين الضعف فيه يترنح المجتمع، نساء ورجالا، وجميعهم يقر بحسن الإسلام لو أن الله يوفقه إليه. وتبقى قضية الأزياء والمجال المشترك والخاص بكل من المرأة والرجل نموذجا تتقاذفه ثقافتان تتدافعان على طول الدولة وعرضها، نظرا لانتظام الجزائريين على قواعد علمانية مستحكمة بقوة السلطة الحاكمة وأخرى إيمانية يختزنها المجتمع وينافح عنها.

 

المفارقة في كل هذه القصص التي تروى عن النساء والرجال، أن جيل الآباء والأجداد لم يطرح سؤال التحدي هذا كيف للزواج أن يستمر أطول فترة ممكنة، وكأن عليه أن يتوقف في يوم ما، لقد كان ذلك الارتباط الذي بسببه وجدنا نحن "سرا مقدسا"، قد لا تطيق الرجولة أحيانا عبث زوجة مراهقة بالقرب منه، ولكن "الكلمة" التي أفضت بها المرأة إلى الرجل وأفضى بها إليها، كانت تعصم الحياة الزوجية من الانفراط، ومع الأيام عززت صلاتها أرمادا من البنات والبنين، فيئست أن تفسدها الشياطين.

 

"كارل ماركس" قال إن التحولات الاجتماعية منبعها صراع اجتماعي واقتصادي من أجل تحسين أوضاع العمال وتحررهم من البرجوازية، وبصمة ذلك بينة في تحليل هذه الظواهر لدى أكثر الكتاب الغربيين ومن تتبع سننهم من دعاة الثقافة الشرقيين.

 

في السياسة

لا ننصف مؤسس الدولة الجزائرية الأمير عبد القادر (رحمه الله) ما دمنا لا نزال نسلط الضوء على الجانب الروحي من شخصيته، وكأنه كان راهبا في صومعة، رغم أننا لم نستوعب مقولاته في هذه الناحية ولم نفتح نوادينا للنقاش حول أسرارها العرفانية. إن للأمير صفات قيادية وسياسية لا بد من مقاربتها بعمق، لأنها جوانب تهم الشعب الجزائري أكثر من علاقة هذا الرجل بربه. وإن للأمير مؤلفات رائعة يعمى عنها قصدا، كمؤلفه البارع في نظام الجند الذي جمع فيه بين العسكرية والأخلاق تحت عنوان: "وشاح الكتائب وزينة الجيش المحمدي الغالب".

 

تذهب بي الظنون مذاهب لما أقرأ ما يتدفق في الإعلام وعلى منصات التواصل الاجتماعي من كلام ناب بين الإخوة المغاربة لم يسبق أن انحدروا إلى قاعه في تاريخهم الإسلامي كله، فقلت في نفسي إن روح الإيمان تنادي إلى الوحدة بين أبناء المغرب الكبير فلم كل هذه البغضاء؟ وعلى كل حال، أليست هويتي محلية ومغربية وشرقية أيضا، إنها تمازج ثقافي فريد من نوعه لو أن أحدهم يتحسس حسنه وحاجة الناس إليه، وفي النفس ما فيها من ذكريات عبقة بمجد لا يزال ماثلا في الأندلس.

 

إن ثنائية الإمارة والولاية بدعة فكرية، وبذرة يتخذها البعض ذريعة للفصل بين ما هو زمني وما هو روحي، أو ما يعرف اليوم في الأدبيات السياسية المتداولة باللائكية والعلمانية والدولة الإسلامية، وتأثير تلك الازدواجية واضح في قول بعضهم بأن الولي الصالح يؤسس «الزاوية»، أما الأمير فمقصده تشكيل «الدولة»، والعلاقة الناظمة بينهما تفاعلية، غالبا ما يكون المسيطر فيها هو الأمير والتابع فيها هو الولي "الصالح".

 

وليس من لازم الملاحظتين أن بعض الطوائف من المؤمنين في شمال إفريقية كانت متحررة من هذا القيد ومنسجمة مع معتقداتها الإيمانية، فاختارت التلاحم مع العثمانيين لصد الغزاة الإسبان، ولم تعتبرهم إلا مددا مشروعا ما داموا يحملون لواء الخلافة الإسلامية، والله أعلم بمراده في تصريف الأحوال بين البشر.

 

يحدثنا زائر مصر بنظرة السائح عما رآه وشعر به حيال الطبع المصري الظريف، وقد لا تجد من يحدثنا عما يشعر به المصري اتجاه إخوانه المعذبين في غزة، وعما يقوله المصريون في السياسة. ما كان ليكون المجتمع المصري كما هو عليه الآن لو أنه بقي على الفرعونية أو على ما تلاها من عقائد لم ترسخ في القلوب رسوخ الإسلام بعد الفتح. المصريون يعيشون كفاحا يوميا ضد الظلم، ومن حقهم أن يعيشوا أفضل من هذا بكثير.

 

في الثقافة

مقاربة الشعر العربي من الناحية الصوتية يعتمد على نظرية منع الترادف، فالشعر والبحر والموسيقى والإيقاع وغيرها لها معان مختلفة كل بحسبه، ولم يبين لنا دعاة الحداثة الشعرية حدود كل مصطلح منها، بل تركوا شبكة المصطلحات متشابكة ولم يستطيعوا تفكيكها؛ لذلك أرى أنه من الواجب التسليم بتداخل المعاني بين تلك المصطلحات وترادفها أحيانا في سياقات كثيرة خاصة عند القدامى، ومثاله كتاب "الأغاني"، الذي حوى قصائد رائعة من الشعر العربي الأصيل كانت تغنى. ثم إن شعر التفعيلة وجد في أنشودة السياب "مطر" وفي الشعر الشعبي متكأ لينطلق في تجربة شعرية جديدة تماهت مع الشعر الغربي، ولا أراه أفلح فلاح الموشح. وفي الوقت الذي يُحتفى ببدر تُغفل تجربة نارك الملائكة ونهاياتها المعبرة عما صار إليه الشعر والشعراء من مهازل حقيقية، ولا يزال يتحاشى بعض النقاد التقويم الشامل لما آل إليه الشعر الحديث من غربة وهجران وتأثير سلبي على قارئة الشعر العربي خاصة.

لم يك يرى رواد اللغة العربية في عصر التأسيس وما بعده أن أخطر ما يهدد أمة من الأمم هو ما يصيبها في لغتها، كانوا يقولون ذلك عن الإسلام لا اللغة، الإسلام الذي كان دافعهم الأساسي لتفجير علوم العربية بلا استثناء، في رحلة بحثهم عن سر الإعجاز في الكتاب المنزل من رب العالمين؛ وبناء عليه، فقد احتضنت هذه اللغة الساحرة كل حراكهم الفكري الذي دار حول الدراسات الإسلامية في القرون الذهبية، ولا أدل على ذلك من موضوعاتها المعالجة بعمق وتوسع.

 

نظلم الأدب إذا حصرناه في الرواية، فماذا نقول عمن كتب خارج الرواية وعمن كان يمارس الكتابة الأدبية قبل ظهورها؟ إنه في عالم الحقيقة لم يعش من الكتب إلا ما كان مفيدا، وبقيت الأخرى في الأدراج وبعضها اندثر، فما بالك بهذه البضاعة المزجاة على كثرتها. ليس من السهل منع ذلك أو تقويمه من جهات مسؤولة عن الجودة في عالم الفكر، نحن نفتقد لكل ذلك في هذا الزمان. المهم أن يتواصى أهل الحق على الحق ويصابروا عليه، فعند الله تجتمع الخصوم.

 

لا ننس في خضم البحث عن أسباب الذيوع والانتشار، ومنها ترويج الناس لم يكتب ويقال، سرا آخر يتحكم في كل ذلك، هو ما يسميه العارفون بالله "القبول"، فما أكثر ما ذاع في عصر ما تلاشى عبر الزمن، وما أكثر ما جهل في وقت من الأوقات علم واشتهر بعد ذلك؛ لذا يحسن ألا يتقصد المرء بعمله السمعة ولا يسعى بين الناس ببضاعته، فالتبر تبحث عنه الأيدي في كل حين وآن، ولا يضيره أن يكون كالترب ملقى في الأماكن.

 

في النقد الموضوعي لا مقام فيه للغراميات. يُقرأ طه حسين من خلال خلفيته الثقافية لا من خلال ما كتب فقط، وليس كل من نقد الرجل كان متجنيا، فأين الحقيقة إذن؟ ومن التجني ربط هذا الاسم بمحمد عبده وأطروحاته الإصلاحية لا النهضوية كما يريد من تقمص التاريخ الأوروبي قولها. من أراد إلحاق مصر بالغرب في التنظير لمستقبلها الثقافي لم يلق تجاوبا من الأوروبيين، "الكيان الصهيوني" هو العجينة المفضلة للغربيين في الشرق فاستثمروا فيه، أما نحن، فأميون ليس عليهم فينا سبيل.