على مدار الساعة

الحوار السياسي في موريتانيا: بين صلابة القواعد الدستورية وتداعيات التحسينات التوافقية

29 يونيو, 2025 - 16:26
الشيخ أحمد الشيباني

منذ إقرار دستور 20 يوليو 1991، خطت موريتانيا أولى خطواتها نحو الديمقراطية التعددية، معلنة بذلك ميلاد الجمهورية الثانية التي ارتكزت على جملة من المبادئ الدستورية المؤسسة للحياة السياسية، أبرزها الفصل بين السلطات، والتعددية الحزبية، والتداول السلمي على السلطة، والتمثيل النيابي القائم على الإرادة الشعبية. وقد شكّلت تلك اللحظة، رغم السياق الانتقالي المحفوف بالتحديات، نقطة تحول فارقة في تاريخ الدولة الحديثة. 

 

 

غير أن التجربة السياسية لم تلبث أن دخلت في مسار من التفاوضات والتفاهمات بين السلطة والمعارضة، خصوصًا في أعقاب الأزمات الانتخابية أو محطات الانسداد السياسي. 

 

 

ومع كل حوار سياسي، كانت السلطة تُبدي استعدادًا لتقديم تنازلات شكلية أو جوهرية، تستجيب لبعض مطالب المعارضة، لكنها في الوقت ذاته تمرّر عبرها ما يُسمى بـ"تحسينات" على النظام السياسي، لا تخلو من أهداف استراتيجية لضبط المشهد السياسي وإعادة هندسة التوازنات.

 

 

من أبرز هذه "التحسينات" التي جاءت نتيجة لحوارات أو تفاهمات:

 

• تعديل سن الترشح لرئاسة الجمهورية بما يسمح بتوسيع قاعدة المترشحين ظاهريًا، لكنه يفتح الباب لتأويلات سياسية مرتبطة بالأشخاص لا بالمؤسسات؛

• تحديد عدد المأموريات، وهو مطلب ديمقراطي مشروع، لكن غياب آلية فعالة لضمان الالتزام به عدى ما تنص عليه المواد "القفل"  جعل منه مجرد بند مرن، قابل للتجاوز بالوسائل "التحسينية" ذاتها؛

• مضاعفة عدد أعضاء البرلمان وتوسيع التمثيل الجهوي والعُمري والجندري، والذي وإن بدا خطوة نحو العدالة التمثيلية، إلا أنه أفضى عمليًا إلى إضعاف الأداء البرلماني وخلخلة الكتلة التشريعية بسبب تغليب الكمّ على النوع؛

• فرض نسب تمثيل على أسس غير سياسية (كالعمر والجنس) أدى إلى ما يُشبه تمييع المشهد النيابي، وسهّل تسلل عناصر لا تمتلك الحد الأدنى من الرؤية أو الكفاءة التشريعية، وهو ما أضر بجوهر الديمقراطية ومصداقية التمثيل.

 

الحوار السياسي كأداة ديمقراطي هل انحرف عن مساره؟

 

في الأصل، يُفترض بالحوار السياسي أن يكون آلية لتقويم النظام وترسيخ المسار الديمقراطي، لكن التجربة الموريتانية أظهرت أن الحوار غالبًا ما تحوّل إلى وسيلة لتفكيك تدريجي للقواعد الدستورية المؤسسة، عبر "ترقيعات" توافقية لا تستند إلى رؤية مؤسسية، بل إلى اعتبارات ظرفية وتوازنات وقتية.

 

وبدل أن يقود الحوار إلى تحديث مؤسسي، أفرز ركودًا سياسيًا وازدواجية في المرجعيات (بين النص الدستوري وروح التفاهمات)، ما انعكس سلبًا على فاعلية المؤسسات، وهيبة القانون، وإيقاع التداول الديمقراطي.

 

إن التراكمات التي أنتجتها هذه التفاهمات الظرفية تحتم اليوم فتح نقاش جدي حول طبيعة الحوار وأهدافه وآلياته. فالمطلوب ليس توسيع قاعدة المشاركة التمثيلية بشكل كيفي، بل إعادة الاعتبار للكفاءة السياسية والقدرة على خدمة الصالح العام داخل المؤسسات المنتخبة.

 

كما أن إعادة التأكيد على سمو الدستور بوصفه المرجعية العليا، لا يجب أن تكون مجرّد شعارات، بل يجب أن تُترجم في صيانة قواعد اللعبة الديمقراطية بعيدًا عن التعديلات التوافقية التي لا تستند إلى رؤية مؤسساتية.

 

 

ولاستعادة جدية الديمقراطية، فإن موريتانيا تحتاج، في هذه المرحلة، إلى إعادة تقييم صريحة وشجاعة لمسارها الديمقراطي، انطلاقًا من مساءلة الخيارات "التحسينية" التي أطاحت بالفعالية السياسية، ومرورًا بإعادة الاعتبار لدور النخبة في صياغة المواقف الوطنية، وانتهاء بإعادة ضبط العلاقة بين الحوار والدستور.

 

 

فالديمقراطية لا تُبنى بالتنازلات المتبادلة ولا بالترضيات الظرفية، وإنما تُؤسس على قواعد واضحة، ومؤسسات فاعلة، وتمثيل حقيقي يعكس نبض المجتمع لا مصالح الأفراد.