في أرض طهورٍ عطرها الدمُ الزكي، تحت جناح الليل الذي أثقلته الطائرات، وبين الأنقاض التي شهدت على عهد الشهداء، نشأ رجال… لا كغيرهم من الرجال.
رجالٌ آمنوا بأن الله اشترى، فباعوا أرواحهم وبذلوا مهجهم، لا يطلبون من الدنيا مالًا ولا منصبًا، بل قالوا كما قال من قبلهم نبي الله موسى عليه السلام حين اشتد الخطب:
﴿قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾.
كانوا كأصحاب الأخدود، صبروا على البلاء، وهم يرون النار تُوقد أمامهم، والموت يحيط بأهليهم وبيوتهم، لكنهم لم ينحنوا، ولم يتراجعوا، ولم يبدّلوا، بل ثبتوا كما ثبت إبراهيم حين أُلقي في النار، وأيقن أن “حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ” تكفيه وتنجيه.
لقد أُوذوا، شُرّدوا، اغتيل منهم القادة، وأُثخن في الجراح رجال، وتواطأ عليهم صهاينة ويهود، وعربٌ باعوا وتاجروا، ومنافقون لا يرقبون فيهم إلًّا ولا ذمة. لكنهم، والله، ما ضعفوا، ولا وهنوا، ولا استكانوا.
وكأن في قلوبهم من يقين نوح عليه السلام، حين لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، يدعو ويصبر، ويقول في ليله:
﴿إِنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ﴾.
فكان نصر الله يأتيهم في اللحظات التي ظن فيها الناس أنهم هُزموا.
تمامًا كما جاء نصر الله ليوسف في السجن، بعد ظلم، وبعد خيانة، وبعد بُعد، فرفعه الله فوق إخوة حسدوه، وسجّان قهره، وامرأة راودته.
وهكذا كان قادة حماس والجهاد والمقاومة، يمشون في طريق الشهداء، يُشيّعونهم صباحًا، ويقسمون ألا يضيعوا دمهم مساءً.
ترى فيهم سكينة أبي بكر يوم الغار، حين قال له النبي ﷺ: “لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا”، وتسمع في دعائهم أنين زكريا، وصبر أيوب، وثبات أصحاب الكهف، وبسالة طالوت وجنوده.
وأما النصر… فكان وعدًا.
لم يكن وعد الأمم، ولا عهود المؤتمرات، بل وعد الله:
﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.
فنصرهم الله، زلزل عدوهم، خابت صواريخ العدو، واحترقت دباباته، وارتجف جيشه، وارتجّت أرضهم من تحتهم.
ووقف العالمُ ذاهلًا، يراقبُ كيف سطعت شمس النصر من أنقاض غزة.
وكانت المفاجأة: أن المنتصرين حفاةٌ عراةٌ، من تحت الركام خرجوا، يحملون راية “لا إله إلا الله”، ويبتسمون.
لقد صدق فيهم قول الحق:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾
فجازاهم الله بأن جعلهم مفخرة الأمة، وأملها، ورجاءها… وأبكى الأرض لأجلهم، ثم أضحكها حين رأى الناس كيف تنهزم الجبابرة أمام أهل القرآن والسجود.
فاصبروا يا رجال المقاومة…
فأنتم اليوم آية الله في زمن الخذلان، وأنتم جند الله في معركة الفرقان.
وأنتم الذين أحيا الله بكم روح الجهاد في أمة نامت طويلًا…
فأبشروا، فقد قال الله:
﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ﴾