يُعتبر واجب التحفظ من الالتزامات المهنية التي تحكم تعبير الموظف العمومي، يستمد نطاقه من المبادئ العامة للقانون الإداري، كما كرّستها الاجتهادات الكبرى للقضاء الإداري الفرنسي (Grands arrêts de la jurisprudence administrative) وتناوله الفقه لاحقا بالشرح والتأصيل.
ويُعرّف المحامي الأستاذ عبد القادر محمد هذا الواجب بقوله: "ينطبق، حسب المتفق عليه من مبادئ القانون الإداري المستنبطة من أحكام القضاء، على كل تصريح ينطوي على سبّ أو قذف، أو إفشاء لسر مهني، أو إحراج للإدارة، أو حتى التسبب في خلق مشاكل لها من خلال كلام غير مناسب".
وانطلاقا من هذا التصوّر، يُثير هذا المقال جملة من التساؤلات حول ما يبدو أحيانا تعارضا بين واجب التحفظ ومسؤولية التعبير: هل يتعلق الأمر فعلا بتوتر حقيقي بين الالتزام المهني وحرية الرأي؟ أم أن هذا التعارض، في جوهره، ليس سوى انطباع مبالغ فيه أو تصور مشحون (1) ثم ما حدود استخدام هذا الواجب، وما أوجه استحضاره خارج سياقه؟ (2) وأخيرا، كيف يمكن تعزيز مشاركة مهنية وواعية في النقاش العمومي، دون الإخلال بمتطلبات التحفظ؟ (3)
1. تعارض ظاهري وتكامل واقعي مضبوط
ينبغي التنبيه في البداية إلى أن الاعتقاد السائد لدى العديد من الموظفين بأن واجب التحفظ ومسؤولية الإسهام في النقاش العام يمثلان التزامين متعارضين، هو اعتقاد غير دقيق. فهذه القناعة غالبا ما تعكس تمثلات تقليدية لا تستند إلى تراث إداري راسخ، ولا إلى سند تشريعي ملزم، بل تُغفل العلاقة التكاملية بين المفهومين ودورهما في تعزيز فعالية المرفق العمومي وترسيخ مبادئ الحكامة الرشيدة.
يُمنح الوكيل العمومي، وهو تعبير أكثر شمولا من "الموظف العمومي"، يشمل إضافة إلى هذا الأخير، الوكلاء العقدويين، ووكلاء الخدمات المسداة، وشاغلي المناصب السامية أو التأطيرية، ضمانات قانونية تكفل له ممارسة وظيفته في إطار من الاستقلالية الفكرية والمسؤولية.
فقد كفلت النصوص القانونية، وفي مقدمتها الدستور، حرية الرأي والتفكير والتعبير، باعتبارها من الحريات الأساسية التي تلتزم الدولة بضمانها لكافة المواطنين، وفقا لما تنص عليه المادة العاشرة منه. وبالمثل، نص النظام الأساسي للموظفين والوكلاء العقدويين للدولة على هذه الحرية، بما يُكرس حق الوكيل العمومي في التعبير عن رأيه وتبني التفكير النقدي، شريطة أن يُمارس ذلك في إطار من الاعتدال، ومع احترام الالتزامات المهنية المرتبطة بصفته.
في هذا السياق، تنص المادة: 14 من قانون الوظيفة العمومية على أن: «تُضمن حرية الرأي للموظف، وتمارس مع احترام واجب التحفظ المطبق على الموظفين». ويُقصد بواجب التحفظ التزام الوكيل العمومي بضوابط السلوك المهني، بما في ذلك الحياد، والتجرد في أداء المهام، وذلك بما لا يُخل بثقة المتعاملين مع الإدارة أو بمصداقية المرفق العمومي.
كما تُلزم المادة: 10 من القانون نفسه الوكيل العمومي بـ"واجب التكتم المهني"، في كل ما يتعلق بالوقائع والمعلومات والوثائق التي يطّلع عليها ضمن، أو بمناسبة، ممارسة وظائفه. وعليه، فإن واجب التحفظ، بما يتضمنه من التزام بالتكتم المهني، ينبغي ألا يُفهم باعتباره قيدا شاملا على حرية الرأي، بل إطارا ضابطا لها داخل الخدمة العمومية.
2. حين يُستحضر واجب التحفظ خارج سياقه الحقيقي
غير أن الحذر المفرط من تجاوز الحدود المبهمة أحيانا لهذا الواجب، يدفع الكثير من الوكلاء العموميين إلى ممارسة رقابة ذاتية صارمة، والانكفاء عن الإسهام في النقاش العمومي، لا سيما حين يتعلق الأمر بالسياسات العمومية أو بالإصلاحات الإدارية والنصوص التنظيمية ذات الأثر المباشر على أداء المرافق العمومية.
وهذه "المقاربة الوقائية"، على الرغم مما قد توحي به من احتراز، تحرم الدولة من طاقات تحليلية واقتراحية كان بالإمكان توظيفها لتحسين تدبير الشأن العام وتطوير الأداء المؤسسي.
ولا ضير في أن يكتسي النقاش العمومي طابعا فنيا، متى استند إلى مرجعية قانونية أو كان مبنيا على تحليل إداري منضبط. بل إن تعزيز هذا النوع من الإسهام الفكري يشكل استجابة مباشرة لنداء أطلقه فخامة رئيس الجمهورية في كتابه "طموحاتي للوطن"، حيث يقول: «...وبهذا كنتُ وما أزالُ أدعو إلى أن ننخرط سوياً في تفكيرٍ جماعي بشأن ملامح موريتانيا التي نريدها [...] وإني لأشكرُ بحرارةٍ كلَّ من استجابَ لهذه الدعوة وشارك فيها، كما أدعو من لم يشاركْ فيها إلى الإسهام فيها مستقبلاً، حرصاً على خدمة المصلحة العليا لبلادنا» ص: 6.
ومن المفارقات التي يُكرسها التصور السائد لدى العديد من الموظفين حول واجب التحفظ، أنه يُفضي أحيانا إلى غض الطرف عن ممارسات تعد خرقا صريحا له، كالمشاركة في أنشطة سياسية أو تجارية محظورة، أو الجمع غير المشروع بين الوظيفة ومهن حرة، في حين يُستدعى المفهوم ذاته لتبرير تحفظ مفرط تجاه مساهمات فكرية متزنة تُراعي الضوابط المهنية.
هذا الاستخدام الانتقائي للمفهوم لا يؤدي فقط إلى تشويش فهمه، بل إلى تقويض دوره كأداة أخلاقية وقانونية لحماية الحياد الإداري.
ويتجلى أثر هذا التصور في ضعف مساهمة الكفاءات العمومية في النقاشات المرتبطة بالتحولات التشريعية والمؤسسية البارزة التي شهدتها البلاد خلال العامين الأخيرين، ومن أبرزها إصلاح الإطار القانوني للاستثمار، وإعادة هيكلة نظام المؤسسات العمومية، واعتماد قانون جديد لمكافحة الفساد، وتنظيم التصريح بالممتلكات والمصالح، إضافة إلى رقمنة الصفقات العمومية، واستحداث سلطة وطنية لمكافحة الفساد.
ويُنتظر أيضا أن تقدّم الحكومة، نهاية هذا العام، أول مشروع قانون مالية في إطار ميزانية البرامج، الخاصة بالسنة المالية 2026. ويستند هذا التحول إلى القانون العضوي رقم: 2018 - 039 المتعلق بقوانين المالية، الذي كرّس الانتقال من منطق "الوسائل" إلى منطق "النتائج"، وفرض على الحكومة إعداد ميزانية تعكس بدقة الوضع المالي الحقيقي للدولة.
وفي هذا السياق، ستُصدر محكمة الحسابات رأيا حول جودة وصدق الحساب العام للدولة، مساهمة بذلك في تعزيز الشفافية وترسيخ مبدأ المساءلة.
غير أن هذه المواضيع الحيوية، على أهميتها، لم تحظ بالنقاش العمومي المتخصص الذي تستحقه، وذلك بفعل التردد السائد داخل أوساط الموظفين في التعبير والمشاركة، فضلا عن غياب فضاءات محفّزة أو مجلات علمية محكّمة تتيح لهم الإسهام في النقاش المؤسسي والفكري. وهو ما يفسح المجال أمام أصوات غير متخصصة لاحتلال المشهد، في غياب مساهمة المعنيين المباشرين من ذوي الخبرة.
3. نعم لانخراط مهني وواع في النقاش العمومي
إن التوفيق بين واجب التحفظ ومسؤولية الإسهام في النقاش العمومي ليس ممكنا فحسب، بل هو ضروري لتعزيز الشفافية وتكريس مبادئ الحكامة الرشيدة. فالوكيل العمومي، بحكم اطلاعه على واقع الإدارة وتجربته الميدانية، فإن مساهمته الفنية في النقاش العمومي، متى التزمت بالضوابط القانونية والمهنية، لا تُعد مشروعة فحسب، بل ضرورية ومفيدة.
غير أن الصورة النمطية التي توحي بتعارض هذا الإسهام مع واجب التحفظ تحد من انخراط الموظف العمومي في تحليل السياسات وتقديم الاقتراحات، رغم أن الإطار القانوني القائم يتيح ذلك، ما دامت المساهمات تتسم بالموضوعية، وتستند إلى النصوص، وتبتعد عن الشخصنة والكشف عن معلومات محمية، وتسعى إلى تطوير المنظومة بأسلوب مهني رصين.
ومن هذا المنظور، فإن الدعوة إلى تثمين القوى الاقتراحية داخل الإدارة وتحفيز انخراطها الواعي والمسؤول يُمثل رافعة حقيقية لتحديث الأداء الإداري العمومي وتطوير آلياته.