الدائرة باتت مغلقة في المجتمعات الحداثية بين تابع حائر على الدوام ومتبوعين يتعاوران الحاكمية ويتصارعان. الرأسمالية والشيوعية لا يتركان لعقل التابع أن يتحرر من جاذبيتهما القوية، بفضل ما لديهما من أدوات وعلى رأسها السلطة؛ لذلك فإن حبل النجاة للبشرية كامن في ثالوث سحري خالد (الله والنفس وتغيير الذات)؛ بمعنى أن الأتباع عليهم أن يتحسسوا بداية دعوة الله لهم بالتحرر واستخدام طاقاتهم الذاتية كالعقل والقلب لتغيير ذواتهم، كمقدمة لتغيير أقوامهم.
ولاة مضيعون
إن قرار مستشارية الأمن القومي في العراق بتاريخ: 27 نيسان 2025 باعتبار «الحركة السلفية المدخلية» حركة تشكل تهديدا عالي المستوى للسلم المجتمعي والأمن القومي، ربما أتى في سياق حماية الحركة الصوفية الموالية للنفوذ الشيعي وسط المكون السني، فالكيد للمجتمع السني بهذه الطريقة خطة انتهجت في عهد الوصاية السورية على لبنان بزرع الأحباش في قلب الطائفة السنية اللبنانية كذلك؛ وإن كلا التيارين الرباط المحمدي والمدخلي صناعة صفوية إمبريالية، جاءت عقب اصطدام الغزاة ببنية المجتمع العراقي الرافضة للاحتلال والداعية للمقاومة، وتصريح وزير الدفاع الأمريكي الهالك "دونالد رامسفيد" بضرورة تغيير الذهنيات مشهور. الجامية والمدخلية صناعة مخابراتية خليجية، وتوظيف بيادق لها بقليل من العلم وبكثير من المال يبث فيها الحيوية، وخطابهم المعادي لأصول الإسلام يصدم الكثيرين وربما انخدعوا به خاصة في الأوساط الشبابية الخالية الوفاض من الثقافة الإسلامية؛ لذلك فتعرية جذورهم ومعاملتهم بالأسلوب نفسه الذي ينتهجونه وتحريض السلطات عليهم والشدة معهم كل ذلك يجدي نفعا ولا ينفصل عن مقاومة المحتلين.
إن النزوع نحو الاحتفاء باللهو واللعب والتنافس عليه، كتنظيم كأس العالم لكرة القدم، وترك المهمات من الأمور مهملة سياسة مقصودة أو تلقائية من طبيعة الأنظمة السياسية المستبدة التي تجافي العلم والدين. هي سلطات تفتقد للشرعية والمشروعية ولا تتحقق فيها شروط الحكم الراشد؛ لذلك ففاقد الشيء لا يعطيه والمرء عدو ما يجهل، فلا تنتظرن منها أن تنهض بالصروح العلمية، ولا تقنعن بما أنجزته المدرسة الرسمية، لأنه لا يكاد يقاس البتة بماضي الأمة في ريادتها المعرفية.
نفاق الغرب
ليست الفلسفات الثلاث الهيجيلية والداروينية والماركسية وحدها ما يفسر نزوع الغرب نحو معاداتنا، لكون هذه النظريات لا تفي بالغرض في فهم السلوك الغربي وتعمده إخفاء الدوافع الحقيقية وراء خصومته لنا والاستماتة فيها. هنالك البعد غير الفلسفي، المتمثل في إيمان العقل الأمريكي المسيطر على الحكم في بلاده بنبوءات العهد القديم في بعدها التلمودي. ولقد كانت هذه العقائد وما تزال في صلب هذا الطبع المتحفز دوما للمغالبة والسيطرة. وفي تواري تلك الدوافع خلف الحجب، يصعب على العقل السياسي المتخلف جدا عندنا والمتسلط في بلداننا أن يستوعب النفاق الغربي وسعيه الدؤوب لتفريخ صيغ حديثة تفرغ الإسلام من مضمونه، كما في الإبراهيمية واتفاقيات ابراهام والوهابية بطعمها الأمريكي، وغير ذلك من منتجات لن تنتهي عند هذا الحد.
فكيف يغدو الحال إذا استمرت الحرب بهذا الزخم وعاد الديموقراطيون إلى البيت الأبيض؟ وماذا يعني لأوروبا قبول الأوكران التنازل عن ربع أراضي الدولة؟ وهل سيقنع الروس بما حققوا أم أن حدود الاتحاد السوفياتي هي المقصد؟ أغلب المؤشرات تشي بأن الرئيس "زيلينسكي" وفريقه الصلب لن يقبل بما تمليه روسيا عليهم من شروط مذلة، وسيراهن على عامل الوقت ويقود حرب استنزاف قد تطول لسنوات. أما نزوع الأوربيين نحو الأتراك للتوسط، فهدية من السماء لأردوغان كي يصفي حسابات وحسابات.
في السياسة الفرنسية هنالك دوما معتدلون، بنكهة أوروبية، ولم يتح لهؤلاء الإمساك بالقرار الفرنسي ولو لمرة، وإن حدث فدونهم معارضات ولوبيات. لذلك لا يعول كثيرا على تصريحات "دوفيلبان"، ولن تجد مقترحاته آذانا صاغية من الزعماء الثلاثة الذين خاطبهم، ماكرون ورئيسي الوزراء البريطاني والكندي، ولا من القواعد الشعبية التي تؤمن بما يقول، لأن المزاج الفرانساوي لا يتحرك من أجلنا بل من أجله هو حالما يتحسس مخاطر تتهدده.
سخط "النتنياهو" على الموقف الأوروبي لخص المشهد، وإن كان هو نفسه قد أرجع هذا التحول إلى حركة حماس عندما شنع على هذه الدول تصديق السردية الحمساوية، إنه جهاد متعدد الجبهات، والتعويل على التغير النسبي للغرب عوائده رمزية أكثر منها عملية، إنه النفاق الأوروبي المتجذر في الذهنيات الغربية. أسطورة الدولة الفلسطينية لقاء السلام أكذوبة لن تبتلعها الأمة ولا ظروف موضوعية حتى لتحققها، الأمة تستحق من قادة الرأي فيها إلى مراجعة وهنها والبحث عن أدوية ناجعة لها.
القناعة الأوروبية بضرورة التخلص من اليهود في أوروبا بإيجاد قطعة أرض مثالية للمرحِّل والمرحَّل ما تزال تطفو من حين لآخر، و"صحوة" الدول الثلاث عندما بلغ الإحراج مبلغه، وهم الأوصياء على العالم الذي شرع في التفلت من قبضتهم، لا يعول عليه كثيرا؛ لأن بناء السياسة الخارجية لهؤلاء على مثل هذه التصريحات والمضي قدما في مخاصمة الكيان المجرم سيصب في مصلحة أعداء الغرب واليهود التقليديين ورثة الخلافة العثمانية، فلا نعولن كثيرا على نصرة البعيد ما دمنا نشكو إلى الله من ظلم القريب.
هل زعماء الأحزاب من يصنع نتائج الانتخابات أم المزاج الشعبي هو من يفعل ذلك ويؤثر لاحقا في السياسات الحكومية؟ أظن بأن القواعد الشعبية التي تتحسب للمخاطر التي تحيط بها وللمصالح المباشرة التي تنفعها هي من يحدد نتائج الانتخابات. اليسار واليمين والوسط ومن هو بينهم عرائس في المزاد، ودليله فلندا والسويد كيف خرجتا من الحياد بعدما رأت شعوبها ما حدث لأوكرانيا، لذلك فإن "لوبان" لن تستطيع إنقاذ نفسها من الورطة باستثارة قواعدها الشعبية إن هي غرمت أو سجنت. هذا هو منطق الدول التي تحترم نبض شعوبها حينما تريد.
أمانة الولاة
تعميم الخلاف وصفا يطلق على العلاقة بين الجزائر والمغرب، من دون التميز بين الشعبين والنظامين، لا يساعد على تلمس الحل للمشكلة. الشعبان متشابهان إلى درجة لا تكاد تجد فرقا بينما إلا لماما، أما النظامان السياسيان فيقفان على صعيدي ما يفرقهما وهو قليل، لا ما يجمعهما وهو الكثير؛ لذلك فإن وعي الساسة ها هنا متأخر عن وعي الشعوب بأهمية وحدتها وإدراك مصالحها، على الأقل كما عند جيرانهم في الاتحاد الأوروبي رغم الاختلاف والتناقض بين دوله؛ وبناء عليه، فإن الوحدة أمام البلدين فريضة شرعية تقتضي العودة الجادة إلى الهوية، والتفطن إلى أن مصالح الخارج تحول دوما دون أية خطوة في ذلكم الاتجاه الصحيح، الذي فيه رضاء رب العالمين.
المناورة تحتاج إلى ضوابط شرعية معروفة، وفي الاختبار الأكبر لن يرضى الغرب على المسلمين لأنهم سيقفون في المكان الصحيح وبوضوح؛ لذلك فالدعاية لحسن التصرف لا تعني التوفيق فيه. وكان على الرئيس السوري أن يصل قومه بلغة خاصة يوضح لهم فيها ما يفعل، فليست الحياة الدنيا مبلغ المرء من عيشه.
اليمين واليسار هما من كان وما يزال يعول على الأجنبي ويقدم من حقوق الأمة إلى المجتمع الدولي لحاجة ولغير حاجة، أما حاملو المشروع الإسلامي فكانوا أكثر الحركات الشعبية حفاظا على الشخصية وإرادة للحياة بحرية. ليس مشروعهم عدميا أو أنه بلا أفق سياسي كما يحلو لبعض السذج أن يرى؛ إن سياستهم عبادة وعبادتهم سياسة، وسيجد الإسلاميون - إذا هم عرفوا كيف يفرضون على المنتصر في الحرب السودانية الجارية احترامهم - في ليبيا المجاورة وفي تركية وأفغانستان، وفي كثير من الدول التي تميل إلى النهج الإسلامي خير داعم وأصدق حليف.