على مدار الساعة

ولاته والشأن العام.. قصة الزمگة بين ولاتة وآمشتيل

2 يونيو, 2025 - 12:59
الدكتور مولاي عبد القادر مولاي إسماعيل / أستاذ جامعي

طالما شدني وسم "الزامگين" في آمشتيل؛ الذي نحته صديقي القاضي الدكتور هارون إديقبي، ويدون انطلاقاً منه أحياناً، في وخز موضوعيّ، يأوي إلى ركن شديد من الذكاء، رغم الأبعاد المقصودة، والأهداف المنشودة!

 

وسأستعير من صديقي هذا الوسم، لأعبُرَ به خريطة الوطن على طولها، إلى أعماق الحدود الشرقية؛ إلى مدينتي مدينة ولاتة التاريخية، لأعبّر عن واقع إحدى حواضرنا التليدة، وواقع نخبتها وأبنائها في ثنايا يوميات وطنهم؛ حضوراً وغياباً، تقديراً وإشركاً أو تغييباً وإهمالاً..

 

تنام مدينة ولاتة –كما هومعلوم- في جنوب شرق موريتانيا، بالقرب من الحدود مع مالي. (تعمدتُ لفظ تنام لمسايرته لواقع الحال).

 

وتُعدّ ولاتة واحدة من المدن التاريخية الأربع في موريتانيا؛ إلى جانب شنقيط، تيشيت، ووادان.

 

وتُعدّ –لأدوارها التاريخية المشهودة- من أهم المدن الموريتانية العريقة، التي تحمل إرثاً حضاريّاً عميقاً، حيث تُعرف بمكتباتها العتيقة، وعلمائها، وتراثها الثقافي المادي وغير الماديّ، الذي صُنّف ضمن قائمة التراث العالمي. وعلى الرغم من مكانتها التاريخية، تبقى ولاتة -كغيرها من المدن الداخلية- جزءاً من المشهد السياسي والإداري في موريتانيا، وخاصة عندما يتعلق الأمر بسياسة التعيينات في المناصب العليا والمتوسطة.

 

ومن البديهيّ أن التعيينات في موريتانيا، جزءٌ مهمٌّ من إدارة الشأن العام، إذ تعتمد الدولة في توزيع المناصب على مزيج من:

  • الكفاءة الأكاديمية والخبرة العملية.
  • الولاءات القبلية والجهوية.
  • التوازنات السياسية والإثنية.

 

وأحياناً تلعب الاعتبارات الظرفية -مثل التحضير لانتخابات أو استرضاء جهات معينة- دوراً حاسماً، أو مؤقتاً في اختيار التعيينات.

 

وبهذا، فإن تعيين المسؤولين غالباً ما يخضع لمعادلة دقيقة، تجمع بين هذه العناصر، مع حضور قوي للاعتبارات الجهوية.

 

ويتضح جليّاً لمتتبع السياسة في موريتانيا، أن ولاتة رغم تاريخها العريق، لم تنل نصيباً وافراً من التعيينات في المناصب العليا، مقارنة بالمدن التاريخية الأخرى، وخصوصاً شنقيط وودان.

 

ويعدّ غياب التأثير الجهوي القوي (بمعنى النفوذ القبلي أو التكتل السياسي القوي)، في ولاتة، سبباً في ضعف تمثيلها.

 

تُعدُّ ولاتة مجتمعًا نخبويًا متميزًا، يتفرد أبناؤه بولاء عميق للوطن، وارتباط راسخ بقيمه الدينية والعلمية. قلّ أن تجد شابًا ولاتيًا إلا وقد أتمّ دراسته المحظرية، جامعًا بين حفظ القرآن الكريم ومتون العلوم الشرعية، ومحققًا في الوقت ذاته نجاحًا لافتًا في مسيرته التعليمية الحديثة، حائزًا على الشهادات الجامعية المطلوبة، ليكون بذلك مثالًا حيًا للشاب الموريتاني الطموح الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة.

 

وعند الحديث عن مسار ولاتة وصلة أبنائها بالشأن العام والتأثير، سنذكر أبرز رجالات ولاتة، الذين شاركوا وتركوا بصماتهم الوطنية والمحلية بارزة؛ شاهدة على أدوارهم.

سأورِدُ نماذجَ من هذا الصنف:

  • الشريف حاجي ولد سيدينا رحمه الله تعالى: شغل الشريف حاجي ولد سيدينا ولد مولاي الحسن، منصب رئيس اتحاد أرباب العمل الموريتانيين في فترة مبكرة، من تاريخ الدولة الموريتانية، بعد أن كان نائباً في البرلمان، خلال عهد الرئيس الموسس المختار ولد داداه رحمه الله تعالى. وبعد مسيرته السياسية، توجه إلى العمل الخيري، حيث ترأس أيضاً لجنة المحاظر والمساجد، مساهماً في تعزيز الصحوة الإسلامية في العاصمة نواكشوط، من خلال بناء المساجد والمحاظر والإنفاق عليها.
  • العلامة أبّ ولد انَّ: عمل رحمه الله تعالى وزيراً للعدل في موريتانيا عام 1961، ضمن أول حكومة بعد الاستقلال، برئاسة الرئيس المؤسس المختار ولد داداه.

 

وقد كان من أبرز الشخصيات في تلك الحكومة، حيث وُصف بأنه "أكبر الوزراء سنّاً" رغم أنه لم يتجاوز الأربعين عاماً آنذاك، مما يعكس مكانته العلمية والاجتماعية المرموقة.

 

قبل توليه وزارة العدل، شغل ابّ ولد أنَّ منصب وزير التهذيب (التعليم)، ثم استقال لاحقاً، ليصبح نائباً في الجمعية الوطنية. ويُذكر أنه كان من أوائل النواب في البرلمان الموريتاني بعد الاستقلال، مما يدل على دوره البارز في بناء مؤسسات الدولة الحديثة.

  • محمد الأمين ولد اگيگ: أستاذ جامعي، تولى منصب عميد كلية العلوم القانونية والاقتصادية، وإدارة التعليم العالي، قبل أن يتولى منصب الوزير الأول (رئيس الوزراء) في موريتانيا، من 18 ديسمبر 1997 حتى 16 نوفمبر 1998، خلال فترة حكم الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد الطائع. بعد ذلك شغل مناصب هامة، منها مفتش عام للدولة في يناير 2015، ثم عُيّن أميناً عاماً مساعداً لجامعة الدول العربية، ورئيساً لقطاع الشؤون القانونية والأمانة الفنية لمجلس وزراء العدل العرب.
  • أحمد سالم ولد البشير: من أبناء ولاتة؛ وهو سياسي موريتاني بارز، شغل منصب الوزير الأول (رئيس الوزراء) في موريتانيا من 30 أكتوبر 2018 حتى 5 أغسطس 2019.
  • أحمد ولد أهل داوود:  ابن مدينة ولاتة، وهو فقيه شاب، من أبرز الشخصيات الدينية والإدارية في موريتانيا، وقد شغل منصب وزير الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي، من 2012 حتى 2019، حيث ترك بصمة واضحة في تطوير القطاع الديني والتعليمي في البلاد.

 

وكثير من أبناء ولاتة، تقلدوا –عبر مسار الدولة الموريتانية- مناصب سامية أخرى (أمناء عامون ومدراء شركات كبيرة وغير ذلك).

 

ما هو جديرٌ بالذكر؛ أن كل هذه الكفاءات –أو أغلبها- الآن في مرحلة التقاعد من الوظيفة العمومية، رحم الله من مات واطال في عمر البقية، ولم تُستبدل بها وجوه جديدة، تكمل البناء، وتساهم في نهضة الوطن –على غرار كل أبنائه من كل الجهات- رغم أن ولاتة ما زالت –كما كانت- تنجب الكفاءات الحقيقية، المرتوية من تراث المدينة العريقة، المتسلحة بشتى العلوم الحديثة، والتجارب الثرية.

وهناك إنجازات مهمة حظيت بها ولاتة، إبان حكم فخامة رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني، من مشاريع تنموية، وما خلفه مهرجان مدائن التراث، من آثار إيجابية على الساكنة، وعلى الوجه العمراني للمدينة، من دون أن أنسى مشروع ربط ولاتة ببحيرة اظهر، وهو المشروع الذي تعهد به فخامة رئيس الجمهورية، ووفى بذلك التعهد، لكن هناك اختلالاتٍ فنيةً، تتعلق بالتنفيذ ما زالت موجودة، وتطالب الساكنة بإلحاح بتصحيحها، لأهمية سقاية ولاتة، وعظيم أثرها على سكان المدينة وجوارها.

 

كما أن ولاتة بحاجة إلى ربطها عبر طريق معبد بمدينة النعمة، وهي المقاطعة الوحيدة في الحوض الشرقي التي لم تُربَط لحدّ الساعة.

 

ولاتة اليوم تحتوي على طاقة شبابية من الأطر، في شتى التخصصات، من أطباء ومهندسيين وقانونيين واقتصاديين، وعدد الشباب الولاتي من معلمين وأساتذة بالعشرات، رغم ما تعاني منه المدينة من عزلة، لعبت وتلعب دوراً سلبيّاً تجاه استقرار الساكنة.

والعديد من شباب وشابات ولاتة، نَشِطٌ في السياسة، ودعم فخامة رئيس الجمهورية في الاستحقاقات المنصرمة.

 

يمكننا القول إن ولاتة اليوم؛ لا يوجد مدير ولا مستشار ولا مكلف بمهمة، ينتمي إلى أبنائها من فئة الشباب، وفي ذلك هدرٌ بيّنٌ للطاقة الشبابية الولاتية حالياً، بعدم إشراكها في تسيير الشأن العام، وهو ما ينعكس سلباً –بطبيعة الحال- على الساكنة وأبنائها من المنخرطين في السياسة، المساهمين في تأطيرها.

 

وأنا كغيري من الشباب؛ أشعر بمرارة عندما أرى أبناء ولاتة خارج الحلبة، رغم اكتسابهم المهارات والكفاءات اللازمة، للمشاركة في تسيير وتنمية الدولة، كما كان حالهم دائماً على مر العصور.

 

ولاتة كانت وما زالت وستظل؛ مدينة العلم والعلماء، مدينة الثقافة والتراث، مدينة الاستقرار والهدوء، مدينة الأخلاق والتمدن والتحضر.

 

بل لا أبالغ إن قلت إن من كانت تنشئته الأولى في ولاتة؛ فقد اكتسب الخصال الكافية –بحكم فلسفة التحضر والتمدن المبثوثة في ولاتة؛ ناساً ومساكنَ وفضاءاتٍ- لتسيير الشأن العام، مع تربية الصدق والتعفف والصبر، التي يُنشأُ عليها الناس هناك، منذ قرون تليدة، حافظت المدينة فيها على مسارٍ علميّ مشرِّف، وجوٍّ تربويٍّ رصين.

 

اليوم من خلال هذه السطور، أوجه رسالة واضحة المعالم، لا لبس فيها ولا مواربة؛ إلى فخامة رئيس الجمهورية، مفادها أن مدينة ولاتة؛ مدينة تاريخية، ولها من الأطر والكفاءات الكثير الكثير.

ولم آخذ إذنا للتحدث باسم شباب ولاتة، لكن أقول إن المئات من الشباب الولاتي، من حاملي الشهادات العليا في شتى التخصصات؛ يجب إشراكهم، انطلاقاً من كل المعايير المتعارف عليها: الكفاءة والوجاهة والتمثيل الجهوي وحتى العرقي!

 

نريد من فخامة رئيس الجمهورية إشراك ولاتة، ففي ذلك إنصاف وإنجاز. ولا يُعقل أن تكون مدينة ولاتة الزاخرة بالعلم والعلماء؛ مهمشة ومغيَّبَة في عهد فخامة رئيس الجمهورية بهذا الشكل.

 

وأكرر بصراحة –وأتحمل مسؤولية ما أقول؛ ولم يعد العصر قابلاً للادعاء المزيّف لسهولة اكتشاف الشواهد- إن ولاتة مليئة بالكفاءات النظيفة، المتمرسة في شتى المجالات، ونطالب فخامة رئيس الجمهورية بإشراكها، على غرار جميع نخب الوطن، بكل جهاته وأعراقه.