على مدار الساعة

لا تنمية للداخل من دون بناء اقتصاد محلي: الحوض الشرقي نموذجا

27 مايو, 2025 - 13:53
بوبكر أحمد

من المسلّمات الأساسية في "علوم التنمية" أن البنية التحتية، مهما كانت "تظل بلا جدوى" ما لم تُنشأ في سياق مجتمع قادر فعليًا على الاستفادة منها.

 

وقد حدد "البنك الدولي" شرطا لنجاح الاستثمارات في البنية التحتية وهي أن ترتبط بأهداف مدروسة وخطط شاملة تتضمن 3 أسس: تنمية رأس المال البشري، وتمكين المجتمعات المحلية اقتصادياً، وضمان الاستدامة.

 

بالتالي، فإن تمكين المجتمعات المحلية اقتصاديا بالتوازي مع الاستثمار في البنية التحتية الأساسية للتعليم والصحة والمياه... الخ هو شرط لا غنى عنها لضمان الاستفادة منها، فالمدرسة تحتاج إلى مجتمع قادر على تحمل نفقات إرسال أطفاله من وإليها، وتوفير مستلزمات التعليم، وتفريغهم للدراسة، وتحفيز المعلمين على البقاء. كما أن النقطة الصحية لا تعمل بكفاءة إن لم يكن السكان قادرين على الوصول إليها وتحمل الحد الأدنى من تكاليف العلاج... وهكذا.

 

ولعل أحد أهم أسباب الفشل التنموي في بلادنا هو انتهاج الدولة منذ التسعينات نموذجاً يركّز على الاستثمار في البنية التحتية الأساسية بمعزل عن التنمية البشرية والتمكين الاقتصادي المحلي، بل وتزامن ذلك مع سياسات ضريبية صارمة أثقلت كاهل المواطنين، ورفعت من تكاليف المعيشة، مما أنتج مجتمعات منهكة غير قادرة على الاستفادة من تلك البنى التحتية.

 

تُجسّد ولاية الحوض الشرقي، كبرى ولايات الداخل من حيث عدد السكان (625,000 نسمة)، هذا الفشل البنيوي بوضوح. فرغم حجمها الديمغرافي وثقلها الانتخابي الذي جعلها دائمًا في صلب السياسات التنموية الرسمية، ورغم الاستثمارات التي شهدتها في مجال البنية التحتية الأساسية ، ما تزال الولاية ترزح تحت مؤشرات تنموية مقلقة  فربع السكان يعيش تحت خط الفقر (24.5%) وأكثر من ثلثيهم في وضعية فقر متعدد الأبعاد (77.8%) وتعاني الولاية من أزمة تنموية حادة (57% من الأطفال يذهبون للمدارس، 53% فقط من نساء الولاية تلدن في منشأة صحية، شبكة كهرباء تصل 69% من السكان، و15% فقط هم من يمتلكون حنفيات مياه منزلية، 79% في مساكن غير لائقة، هذا بالإضافة إلى هجرة أغلب السكان نحو العاصمة والخارج.. الخ.

 

إن الفشل التنموي في ولاية الحوض الشرقي (على غرار باقي ولايات الوطن) يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعدم المعالجة الجادة والفعالة لجذور الأزمة، والمتمثلة أساسًا في تفشي الفقر وتدهور المستوى المعيشي للسكان، وذلك على الرغم من ما تمتلكه الولاية من مقدرات اقتصادية واعدة كان بالإمكان تحويلها إلى رافعات حقيقية للتنمية إن استُثمرت ضمن رؤية شاملة ومتكاملة.

 

ولتصحيح هذا الخلل البنيوي، تبرز الحاجة الملحّة إلى تعبئة واستغلال الإمكانيات الهائلة المتوفرة في الولاية، لا سيما في مجالات التنمية الحيوانية، والزراعة، والتجارة الحدودية مع جمهورية مالي، إلى جانب السياحة الثقافية والأثرية... وغيرها.

 

وتتطلب هذه المقاربة إعطاء الأولوية القصوى لقطاع التنمية الحيوانية، حيث تمتلك الولاية ميزة تنافسية كبرى تؤهلها لتكون قطبًا إقليميًا رائدًا في هذا المجال، إذ تشير مختلف الدراسات إلى أن الحوض الشرقي يحتضن ما يناهز 6 ملايين رأس من الأبقار، ويمثل حوالي 33% من الثروة الحيوانية الوطنية، مع قدرة إنتاجية تقدّر بـ80 ألف طن من الألبان سنويًا... الخ، وهو ما يؤهله لأن يكون "عاصمة المنتجات الحيوانية في غرب إفريقيا".

 

لكن استغلال هذه المقدرات يواجه تحديات بنيوية عميقة، تستدعي القطيعة مع الأفكار والتصورات والمقاربات التقليدية التي ظلت تُنهج منذ عقود دون تحقيق نتائج ملموسة. ولذا، يتطلب الأمر تصميم جيل جديد من التدخلات والإجراءات الجذرية والقوية، تتجاوز حدود الحلول الجزئية مثل ترميم سد ترابي، حفر بئر ارتوازي... الخ، كما تتجاوز الحلول الارتجالية مثل إنشاء مصنع ألبان دون ضمان الامداد... الخ لتؤسس لنهج اقتصادي مندمج ومستدام.

 

وفي مقدمة هذه التدخلات:

  1. المياه: حيث تمتلك الولاية ثروة مائية متنوعة مهملة تشمل: مياه جوفية واسعة (10 مليارات م3 في بحيرة اظهر والتي ما يزال شمالها غير مستكشف! وبحيرة أوكار المهملة)، بحيرات سطحية غير مستصلحة (محمودة، توق، فاني، جكراك، فدره، دندار، فوق...)، وكميات كبيرة من مياه الأمطار في الجزء الجنوبي الماطر (100 و400 ملم سنويًا والذي يمثل 33% من الولاية!).

 

ورغم أن الولاية تتميز بوجود مجاري مياه أمطار موسمية كبيرة خلال فصل الخريف (215 حسب إحصائيات 2005 و2010) توفر 90% من حاجات الماشية، فإنه لا توجد خطة لاستغلال مياه الجريان السطحي، وتنحصر التدخلات أساسا في حفر عشوائي للآبار بعضها ذي إنتاجية ضعيفة وملوحة مرتفعة!.

 

بالتالي، فإن برنامج مياه حقيقي يعتمد على أحدث التقنيات ويشمل (استكشاف وتطوير البحيرات الجوفية، استصلاح البحيرات السطحية، تهيئة الأحواض الساكبة وحصاد مياه الأمطار، تحلية المياه المالحة.. الخ) هو ركن أساسي في تطوير الحوض الشرقي!.

 

ولعل خير مثال (للاستغلال النموذجي للمياه) هو تجربة استغلال مياه الجريان السطحي عبر تهيئة الحوض الساكب بمخيم اللاجئين في امبره (بتصميم وتنفيذ منظمات دولية) حيث ساهمت هذه التجربة في تأمين جزء كبير جدا من احتياجات اللاجئين الزراعية والرعوية.

 

  1. تنظيم وتطوير المراعي: تمتلك ولاية الحوض الشرقي كثافة رعوية هامة لكنها سرعان ما تتدهور بفعل: الرعي الجائر والتغيرات المناخية، الزحف الرملي وتآكل الغطاء النباتي، وغياب سياسات تنظيم فعالة للمراعي.

 

المشكل الأبرز يتمثل في عدم التوازن المكاني للرعي، الناتج عن فوضى توزيع الآبار، حيث يتركز القطيع في مناطق تتوفر فيها المياه، فيما تبقى مناطق رعوية أخرى غنية مهملة بسبب عدم توفر مصادر مياه، وهو ما يؤدي إلى إنهاك المراعي وتدهورها المتسارع.

 

والمفارقة أن موريتانيا من الدول القليلة التي ما تزال تعتمد كليًا على الأمطار لتغذية المراعي دون أي تدخل بشري لتوسيع أو تحسين الغطاء الرعوي.

 

بالتالي، لا مناص من تحديث المجال عبر اعتماد التقنيات الحديثة في مجال تهيئة المراعي وإدخال مشاريع زراعة وتطوير مراعي اصطناعية، وإعادة تأهيل المساحات المتدهورة، وتنظيم حركة الرعاة والقطعان حسب قدرة المراعي الاستيعابية، مع إنشاء نقاط مياه رعوية وخزانات متنقلة لتوزيع الضغط على المراعي بشكل متوازن.

 

إن تطوير وتنظيم المراعي في هذه الولاية له أبعاد أخرى سياسية وأمنية واستراتيجية... أهمها الحد من هجرة القطيع نحو دول الساحل، ومنها تثبيت الرعاة قريبا من المدارس (لتدريس أبنائهم) والخدمات الأساسية المختلفة!.

 

  1. الزراعة: حيث تُعد الزراعة عنصرًا تكميليًا لا غنى عنه في منظومة التنمية الحيوانية، إذ تساهم بشكل مباشر في تثبيت القطعان وتخفيف تكاليف رعايتها، ولنا مثل في الدور الحاسم الذي تلعبه مخلفات مزارع الترارزة في استقرار الإنتاج الحيواني الذي يزود مصانع الألبان في نواكشوط.

 

تمتلك ولاية الحوض الشرقي قرابة 94,000 هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة، وهي مساحة كافية لإحداث تحول زراعي عميق، إلا أنها تظل شبه معطّلة، وتغلب عليها الزراعات المعيشية ضعيفة المردودية، وذلك في ظل تركيز المجهود الوطني علي زراعة الأرز في الضفة.

 

إن استصلاح الأراضي الزراعية في ولاية الحوض الشرقي بما يتلاءم مع طبيعة الزراعات المطرية، وتزويدها بالبنية التحتية الضرورية للري، إلى جانب اعتماد نموذج زراعي علمي ومتكامل يشمل التخطيط والإنتاج والتسويق، يُعدّ من الشروط الأساسية لتعزيز الأمن الغذائي والحد من الفقر، ومدخلًا استراتيجيًا لاستغلال المقدرات الرعوية الهائلة التي تزخر بها الولاية، من خلال التكامل بين الزراعة والإنتاج الحيواني ضمن منظومة تُعزز من القيمة المضافة وتدعم الاقتصاد المحلي.

 

  1. والأهم من كل ما سبق تطوير رأس المال البشري: وهو شرط ضروري لتحقيق النهضة   الزراعية والرعوية في الولاية، حيث أن غياب منظومة فعالة للتكوين والتدريب تشمل مختلف المستويات: من المنمين والمزارعين إلى الفنيين والمهندسين والباحثين.. يمثل ثغرة بنيوية خطيرة تمنع تحويل الإمكانات المتاحة إلى فرص اقتصادية فعلية.

 

  1. مشاكل تنظيمية متنوعة منها: عدم مطابقة قطاع الصحة الحيوانية للمعايير الدولية وغياب التغطية البيطرية، البنية التحتية العصرية للتجميع والسلخ والنقل، التحسين الوراثي.. الخ

 

طبعا، تطوير الولاية لا يمكن أيضا أن يتم من دون تنشيط فعلي للقطاعات الأخرى،

 

  1. قطاعات أخري 
  • إنشاء مسار سياحي (منتج سياحي متكامل) للسياحة الأثرية في ولاتة، كومبي صالح.. والترويج له محليا وعالميا،
  • تنظيم وضبط وتطوير الأسواق التجارية الحدودية! والتفكير في تطوير منطقة حرة حدودية !!
  • زراعات غابوية عبر محميات طبيعية من الأشجار المنتجة كالصمغ العربي وغيره.
  • أنشطة أحري كزراعة الأسماك في البحيرات، تطوير اللوجستيك البري والجوي (مطار النعمة)، الاستفادة من مقدرات الولاية من الطاقة الشمسية، التخطيط الحضري للمدن، الأنشطة الرياضية والثقافية... الخ.
  • يمكن أن يشكل شمال الولاية المهجور حاليا والمغلق عسكريا (منطقة المجابات الكبرى) رافعة مستقبلية للتنمية من خلال إنشاء محطات بحث علمي في المناخ والفلك والبيئة الصحراوية، وتجريب زراعات مقاومة للجفاف، وإدماجه لاحقًا في مسار سياحي صحراوي مستدام، طبعا بعد رفع القيود الأمنية الحالية.

 

ختاما، يتضح مما سبق أن ما تزخر به ولاية الحوض الشرقي من ثروات زراعية ومائية وحيوانية، وإمكانات اقتصادية واعدة، وطاقة بشرية شابة، يشكّل رافعة حقيقية لأي مشروع تنموي جاد. وهو ما يستوجب إعادة صياغة السياسات العمومية، لتكون أكثر توازنًا وإنصافًا، تضع في صلب أولوياتها تحسين ظروف عيش السكان، ومكافحة الفقر، وتوسيع آفاق التشغيل عبر خلق وتطوير اقتصاد محلي قوي ومنظم.

 

ذلك أن النجاح في بناء تنمية مستدامة في مجالات التعليم، والصحة، والبنية التحتية، لا يمكن تحقيقه بمعزل عن خلق ديناميكية اقتصادية حقيقية تُخرج السكان من دوامة الفقر، وتُحسّن ظروفهم المعيشية، وتُعزز قدرتهم على الاستفادة من مسارات التنمية وتحمل أعبائها والمساهمة فيها بفعالية.

 

والأهم أن كل ما سبق لا يمكن أن يتم من دون إرادة سياسية قوية.. ومطالب شعبية حقيقة.. وإجماع محلي صادق على خيار التنمية، بدل استنزاف الجهود في تغذية الصراعات الهامشية والنزاعات المحلية التي تعيق كل مشروع تنموي!.