على مدار الساعة

تشريعات "على المقاس": الشفافية ومحاربة الفساد تحت الحصار

23 مايو, 2025 - 13:09
أحمدو ولد امبالة / نائب رئيس البرلمان

في لحظة فارقة من تاريخ موريتانيا السياسي والاقتصادي، استقبلت الجمعية الوطنية ثلاثة مشاريع قوانين يفترض أن تشكل تحولا جذريا في معركة البلاد ضد الفساد ونهب المال العام وهي: قانون التصريح بالممتلكات والمصالح، وقانون مكافحة الفساد، وقانون إنشاء السلطة الوطنية لمكافحة الفساد.

 

لكن بدل أن تمثل هذه المشاريع بداية عهد جديد من الشفافية والمساءلة في بلد هو في أمس الحاجة لها، كشفت النقاشات البرلمانية والنسخ المعدلة منها عن واقع مقلق، قوانين تفصل على مقاس النافذين، وتفرغ من محتواها في دهاليز اللجان البرلمانية، وتمرر بشكل يكرس ثقافة الإفلات من العقاب بدل مكافحتها.

 

قوانين بلا أنياب: استثناءات غريبة وثغرات مقصودة

 

أثارت الصيغة النهائية لقانون التصريح بالممتلكات موجة جدل واسع، بعد أن تم حذف إلزام النواب بالتصريح بممتلكاتهم، قبل أن يعاد إدراجهم شكليا ضمن النص، دون ربط ذلك بأي التزامات عملية أو عقوبات.

 

ويكشف تحليل النصوص المقدمة عن ثغرات منهجية:

 

- غياب تعريف المستفيد الحقيقي، ما يفتح الباب أمام إخفاء المصالح والأموال.

 

- عدم إلزام أعضاء مجالس إدارة الشركات العمومية والمختلطة بالإفصاح عن ممتلكاتهم، رغم إشرافهم على صفقات بملايين الدولارات.

 

- تقييد النشر العلني للتصريحات إلى “بيانات مجملة”، تقوض دور الإعلام والمجتمع المدني في الرقابة.

 

- عدم تحديد آليات مستقلة للمراقبة أو فرض عقوبات على التصريحات الكاذبة أو المتأخرة.

 

- مهلة زمنية تصل إلى ثلاث سنوات لتقديم التصاريح، ما يمثل تسويفا مؤسسيا لا يتماشى مع متطلبات محاربة الفساد.

 

والأخطر أن القانون لا يشمل عقوبات صريحة للمخالفين من النواب، في حين يفرض على غيرهم من المسؤولين الحكوميين، ما يطرح تساؤلات حول جدية الحكومة والبرلمان في محاربة الفساد من الجذور.

 

منظومة رقابية بلا فعالية: مؤسسات في قبضة السلطة

 

ورغم الحاجة الماسة لهذه القوانين الا أنه لا يمكن الحديث عن مكافحة الفساد في ظل مؤسسات رقابية فاقدة للفاعلية والاستقلالية:

 

•هيئة مكافحة الفساد تفتقر إلى الصلاحيات والموارد، وتخضع التعيينات فيها للاعتبارات السياسية.

 

•محكمة الحسابات تصدر تقارير رغم مايشوبها من محابات، لكنها غالبا ما تظل دون ترتيبات إجرائية ومتابعة قضائية.

 

•المفتشيات الوزارية تعمل تحت سلطة الوزراء، ما يجعل رقابتها محدودة وغير موضوعية.

 

والنتيجة مساءلة انتقائية، تطارد صغار الموظفين، وتحصن الكبار خلف جدران “الاستثناءات التشريعية”.

 

كل هذا في واقع الأرقام فيه والمعطيات صارخة بحجم الفساد، فوفق التحقيق التى تستند إلى تقديرات من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والبنك الإفريقي للتنمية، استنزف الاقتصاد الموريتاني بما يقدر بـ66.32 مليار دولار بين عامي 1991 و2024.

 

وأظهرت هذه التقديرات حجم التأثر في القطاعات التي تعتبر الركيزة الأساسية للإقتصاد:

 

•الصناعات الاستخراجية: 20.4% من إجمالي الخسائر (13.56 مليار دولار).

•الصيد البحري: تصاريح ممنوحة بطرق غير نظامية تكلف الدولة سنويا بين 150 و200 مليون دولار.

 

•القطاع المصرفي: قروض متعثرة منحت لـ”مقربين سياسيا”، فيما يعاني صغار المستثمرين من فوائد مرتفعة.

 

وبين عامي 2021 و2024 وحدها، بلغ معدل الخسائر السنوية 2.44 مليار دولار، مع خسائر بـ460 مليون دولار من قطاع التعدين و200 مليون دولار من الصيد في عام 2023 فقط.

 

ورغم حديث حسن النوايا المتكرر من الحكومة بنية محاربة الفساد و انتهاج بعض

الإصلاحات الجزئية من قبيل

•التوجه نحو الرقمنة.

•إنشاء محاكم مختصة بالفساد.

•تعزيز التصريحات المالية للمسؤولين.

لكن هذه المكاسب لم تستكمل وتراجعت الإرادة السياسية لاحقا.

 

مؤشرات اقتصادية في مواجهة واقع سياسي مرتبك

 

اقتصاديا، يقدر الناتج المحلي الإجمالي لموريتانيا في 2024 بنحو 10.76 مليار دولار بالقيمة الاسمية، وبـ37.29 مليار دولار حسب تعادل القوة الشرائية، مع نمو بـ4.4% بفضل مشاريع الغاز وتوسع في قطاعي الذهب وخام الحديد.

لكن هذه الأرقام الإيجابية تصطدم بتحديات بنيوية:

•     معدل تضخم بـ2.7% في 2024.

•     نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي تبلغ 44.2%.

•     خسائر الفساد تفوق قيمة الناتج المحلي لأكثر من عدة سنوات، وهو مايجعل الحديث عن محاربة الفساد لم يعد ترفا سياسيا، بل ضرورة وطنية لضمان مستقبل اقتصادي آمن وعدالة اجتماعية مستدامة.

 

ومع ما شهدناه من تفصيل القوانين على مقاس النخب و طلبات واشتراطات المانحين الدوليين، يؤكد أن المعركة في جوهرها معركة إرادة سياسية تدفع بسن تشريعات حقيقية تخضع الجميع دون استثناء للمساءلة وتفعل الرقابة، وتعاقب المفسدين مهما كانت مواقعهم، وتطلق يد المجتمع المدني والصحافة بدل تقييدها.

 

فإما دولة قانون تخضع فيها السلطة للرقابة، أو نظام حصانة يتغذى على الصمت والتمويه ولا يسمح ان تكون الكلمة الأخيرة للمواطن، الذي بات يدفع ثمن كل تأجيل وتلاعب وتشريع مفرغ من مضمونه.