الغرر البين
كان احتفال العالم بالقضاء على العدو النازي غررا بينا، لأنه العالم ما يزال وقعا في براثن عدو أكثر نازية وتوحشا، وطوال الثمانين عاما المنصرمة لم يجرؤ إلا قليل على انتقاد المنظومة الأممية التي صاغت بنودها الأحلاف التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية، وها هي ذي اليوم تعيد صياغتها وفق مصالحها المستجدة؛ فمن هو الغبي الذي لم يتعظ من دروس التاريخ إذن؟
تغيير اسم الخليج "الفارسي" باسم الخليج "العربي" على الخارطة الإسلامية لا يغير من الواقع المضحك المبكي شيئا، إذا ما استحضرنا الغاية من زيارة السيد الأمريكي إلى السعودية؛ أبكلمة واحدة تستحل كنوز الأمة هكذا؟ إنها الصفقة الخاسرة! وفي المقابل فإن الحوثيين كسبوا ورقة قوية للتفاوض دوما على الملاحة في المضايق والبحار المجاورة لليمن السعيد، وتم بها تحييد حليف صلف داعم للكيان المجرم بدهاء، ليتفرغوا له وحده؛ ولذلك شعر رئيس حكومة العدو بخيبة وامتعاض لأنه خسر قوة غاشمة كانت تسانده في فك الحصار المضروب عليه بحرا وجوا. فهنيئا للإخوة اليمنيين على هذه الصفقة الرابحة!
ملوك الطوائف عندنا يتخيرون لدولهم في كل مرحلة ما يناسبها من مفترسات. بسط الزرابي الحمر للتنين الصيني لا يعني أن الولايات المتحدة والروس قد غادرونا، هنالك فترة من الصراع بينهم قد تمتد لعقود لا يدرى أيهم سينهزم فيها. ومن المصلحة العليا للدول التي لديها القابلية للافتراس أن تتشوك قليلا وتعمر أرضها من أجل مستقبل آمن، وتحسبا لما هو آت.
الكيد العالمي
بدل وضع التقارير المخابراتية على مكاتب الرؤساء في قصر الإليزيه فلتوضع لوحة ثابتة لا تتغير تقول لهؤلاء : "إن الشرق غير الغرب، وإن الجوار الدائم على الأرض بالحسنى مانع لحدة الصراع بينهما، فلنتعاون بندية أفضل"، فرنسا بلباقتها بدأت تدرك بأن دروس الأستاذية لم تعد تجدي، وأن رغبتها في حكومة علمانية تخلف الأسد لا تحول دون التواصل البناء مع المنتصرين في الحرب ولو كانوا جهاديين، ما دامت أنابيب الطاقة الآمنة من الخليج ستأتي إليها عبر سورية وتركية المتحالفتين بقوة، فالأولى بها أن تمد جسور التفاهم والتسامح والتعاون بتواضع.
الحكم على الشيء فرع عن تصوره، لندع المشهدية البانورامية في سورية تكتمل ثم نحكم عليها. العجلة في الحكم لا تقتصر على دولة لم تخرج من مرحلة الثورة بعد رغم الأدخنة المرئية التي ترتفع من هشيم تخمد نيرانه يوما بعد آخر، بل إن دولا كبرى كالولايات المتحدة بلغت من القوة والعمران مبلغا عظيما يسارع رئيسها الزمن كي يقدم لشعبه إنجازات خلال مئة يوم من ولايته فلا يستطيع ذلك إلا كذبا. أما الحاكم الصالح فقد صدق شعبه بواقعيته ووفى حتى اليوم بما قال ووعد.
لقد جمع الناقمون على الحكام الجدد كل الحطب وألقوه في النار دفعة واحدة. أفي أربعة أشهر تبنى الدول؟ يكفي حمدا أنه تم إسقاط نظام شمولي دموي بضربة لازب، وتسيير شؤون دولة منهارة، وطمأنة العالم بحسن العلاقات، وإخماد حرائق يساهم بعض السوريين في إيقادها، وتأمين داعمين دائمين حقيقيين، ووضوح الرؤية إلى المستقبل، وجلب استثمارات طويلة الأمد، وترميم الصلات مع مكونات اجتماعية بمهارة... إنجازات ناجحة خلال مرحلة انتقالية لم يمض عليها سوى مئة يوم أو تزيد قليلا.
"الكيان" تطلق على الصهاينة لا على السوريين الأباة الأصيلين. علما بأن مفهوم المواطنة يتنافى والمحاصصة التوافقية وما تحتاج إليه من مواثيق وتعهدات سابقة. إنها صورة نظام سياسي لا أغلبية فيه تطبع العهد الجديد بطابعها، وذلكم ما يريده الخارج وبعض بيادقه في الداخل. ثم إن محاولة إظهار الحكم في سورية ضعيفا وغير قادر على ضبط الأوضاع ممن ينادي بحقوق خاصة به، وربما قضي خلالها على أصوات تفصح عن خلاف ذلك، كما وقع لرئيس بلدية صحنايا الذي أدى شهادته أمام الإعلام بنزاهة ثم أفضى إلى ربه مقتولا_ فذلكم وغيره زوابع مثارة في فنجان ستزول بإنجازات الحكام الجدد المتراكمة يوما بعد يوم إن شاء الله تعالى!
"كل الصيد في جوف الفرا" كما يقول المثل العربي، فإذا كان للعدو الصهيوني كل هذا "الفضل" على تحسن أوضاع الشعب السوري وكل هذا الجبروت على خارطته الجغرافية، فليسالم هذا الشعب المسكين ليسلم أحسن. إنه المنطق ذاته الذي يتحجج به طيف لا بأس به من اللبنانيين اليوم للتطبيع مع الأعداء والعيش في سلام على غرار دول وازنة كمصر والأردن وربما غيرهما لاحقا. أما من يناهض الاحتلال فهو إما "هتشي" (هيئة تحرير الشام) أو متطرف أو لا يؤمن بالمواطنة بل والغ في المجازر منذ أيام حكمه الأولى!!!
القلاقل تتركز في محيط الخارطة السورية لا في داخلها، بمعنى أن الغالبية التي تحيط بمركز القرار في سورية لا تمانع فيه وإلا كانت تحالفت مع الأطراف ضده كما في الثورة السورية، وهذه الخارطة تعطي منعة شعبية قوية لحكام البلاد الجدد، فلم الاضطرابات إذن؟ كما أن الطبيعة الديموغرافية للأطراف المتوترة بتشوفها للمشاركة في الحكم بصيغة أكثر من حجمها تجعل من نفسها خصيما للأكثرية التي ستحسم الخيارات في كل الاستحقاقات، فما المصلحة من استعداء أمتها إذن؟ وإن للدروز والعلويين والأكراد اليساريين أفكارا نابية وتوجهات لا يفصحون عنها علنا ويدفعون باتجاه تحقيقها، والبقية تدرك ذلك وتتحسب له، فمتى تبنى الثقة بين أبناء الوطن الواحد إذن؟
العروة الوثقى
كل هذا الكيد لتفتيت الشعب السوري الأبي فشل في نهاية المطاف وسقط الطغيان، والعودة إلى اللازمة ذاتها مع هذه التجربة الجديدة في الحكم ستعيد الخاتمة نفسها، فلا يطمعن من يكيد للمجتمع السوري المتلاحم عبر التاريخ بتحقيق أهدافه محال ذلك. ولكن أين هي الخطة المضادة لتعزيز الوحدة في المجتمع وتفويت الفرصة على الأعداء؟ أتمنى أن تلتفت السلطات السورية إلى جعل ذلك واجبا وطنيا فعليا لا شعارا أجوف لا مفاعيل له في الواقع.
ولكي تكون هذه التجربة الإعلامية مثمرة فعلا، عليها أن تجترح طريقا جديدا لم يعهده الناس، لا من حيث المنطلقات والمضامين والغايات فقط، ولا من حيث الوجوه والأداء فحسب؛ يكون "ضميرا حرا" خيرا من "صديق جديد"، ويكون ناطقا بالحق لا بوقا للنظام، ويكون صلة وصل بين الناس والحاكم لا منحازا لأحدهما، ويكون خطابه إصلاحيا جامعا لا فساد فيه ولا تحريض. والكفاية في التخصص وملاءمة الحاجة لجنس العاملين أولى من الولاء للمشرفين والهرب من النمطية الذكورية أو الأنثوية، والتنويع والشمولية والحركية صفات لازمة تجعل هذه التجربة التليفزيونية رائدة حقا.
أظن بأن تشبيه ما يحدث من إصلاح في الإعلام السوري اليوم بما جرى عليه الحال في أول العهد بالبعث البائد قياس مع الفارق، فالتجربة الإعلامية البعثية لها سياقها الذي ولدت فيه وكبرت ثم انتهت لما انتهى نظامها الحامي، أما السياق الجديد فغير ممكن الاستحواذ فيه على الإعلام كليا ما دامت منصات التواصل أكثر انتشارا وتأثيرا. وكأي سلطة جديدة، فهي محتاجة إلى طاقم متناسق مقتنع بطرحها تعتمد عليه في إدارة الحكم، بما في ذلك الإعلام. لكن نجاح ذلك أو فشله مرهون بمصداقية الأداء وشفافيته وحريته واستقلاليته، وهذا الأداء الذي نراه اليوم ما يزال في الطوق لم يشب عنه، فرفقا بالمولود الجديد.
ما الضير في نظام الخلافة وقد ساد قرونا في العالم منيعا مرفها مكتفيا؟ وما الضير في أن ندع عنا النموذج الغربي في الحكم ونتنصل قليلا من جاذبيته التي لا يرى المعجبون به أي مساوئ فيه، رغم صداعه الذي لا ينتهي. الجهاد، الدعوة إلى العفة، كف الناس بعضهم عن بعض، الضرب بقوة على أيدي العابثين، وأد الفتنة في مضاربها، أسلمة الاقتصاد، بناء تحالفات، جلب استثمارات، العدالة في تقاسم الثروة... ما الاعتراضات المنطقية على كل هذه الفضائل؟