يُعدّ ما يُعرف بملف "العشرية" إحدى أكبر القضايا القضائية والسياسية في تاريخ موريتانيا الحديث، من حيث حجم الاتهامات وطبيعة الشخصيات المشمولة فيها التي، وفي طليعتهم الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز. ومستوى الإشكال القانوني والاجتماعي المتمخض عن هذا الملف ورغم أن الملف حمل في ظاهره نوايا محاسبة الفساد وترسيخ مبدأ المساءلة، إلا أن طريقة إدارته والقرارات المرتبطة به أثارت جدلاً واسعًا حول مدى حيادية القضاء ومصداقية الإجراءات القانونية، وفتحت الباب لتساؤلات حول التوظيف السياسي وتصفية الخصوم.
تفاصيل الأحكام الابتدائية
فقد أصدرت المحكمة المختصة بجرائم الفساد، يوم الاثنين 4 ديسمبر، أحكامها النهائية في ما بات يعرف بـ"ملف العشرية"، بعد سلسلة من التحقيقات استمرت لسنوات حثيثة، وجاءت الاحكام على النحو التالي:
1. محمد ولد عبد العزيز (الرئيس السابق)
- التهم: غسيل الأموال، الإثراء غير المشروع
الحكم: 5 سنوات سجن نافذة، ومصادرة حقوقه المدنية، ومصادرة الأموال المتحصلة من الجرائم
2. أحمد سالم ولد إبراهيم فال (المرخي) – مدير سابق لشركة صوملك
الحكم: الحرمان من الحقوق المدنية، ومصادرة الأملاك الناتجة عن الإثراء غير المشروع.
3. محمد ولد الداف الرئيس السابق للمنطقة الحرة في نواذيبو
الحكم: سنتان ونصف سجنا، منها 6 أشهر نافذة، وغرامة مالية بـ50 ألف أوقية جديدة، ومصادرة الأموال المتحصلة من الجرائم.
4. محمد ولد امصبوع – صهر الرئيس السابق
الحكم: الحرمان من الحقوق المدنية، ومصادرة الأملاك المتحصلة عليها من الإثراء غير المشروع،
5. محمد الأمين ولد بوبات – رجل أعمال
الحكم: سنتان سجنا مع وقف التنفيذ، وغرامة مالية بـ50 ألف أوقية جديدة، ومصادرة العائدات الجرمية.
6. يعقوب ولد العتيق – مقاول
الحكم: سنتان سجنا، منها 6 أشهر نافذة، ومصادرة العائدات الجرمية.
فيما تمت تبرئة بقية المشمولين في الملف من جميع التهم، ورفع الحجز عن جميع ممتلكاتهم، وهم:
- يحيى ولد حدمين – الوزير الأول الأسبق
- محمد سالم البشير – الوزير الأول الأسبق
- الطالب عبدي فال – وزير الطاقة والمعادن الأسبق
- محمد عبد الله ولد أوداع – المدير السابق لـ"اسنيم"
- محمد الأمين ولد ألوكاي – عدل منفذ
الحكم: قضت المحكمة ببراءتهم ورفعت الحجز عن ممتلكاتهم.
نظرة تحليلية على المحاكمة
1. طبيعة العقوبات وتفاوت الأحكام:
الحكم الأشد صدر بحق الرئيس السابق، مما يعكس الرغبة في تحميل رأس النظام مسؤولية سياسية وقانونية مباشرة. بالمقابل، جاءت أحكام رجال الأعمال وبعض المسؤولين السابقين أقل حدة، خصوصًا ممن تعاونوا خلال التحقيق أو لم تكن التهم بحقهم كبيرة.
2. الانتقائية والاصطفاف السياسي:
رغم اتساع نطاق التحقيقات وشمولها أكثر من 300 شخص، فإن تقليص لائحة المتهمين إلى 11 فقط، مع تبرئة شخصيات بارزة كانت فاعلة في النظام السابق، مثل الوزير الأول الحالي، ووزير التعليم... وغيرهما أثار تساؤلات حقيقية حول انتقائية العدالة وتوظيفها في تصفية حسابات سياسية. حيث تساءل الشارع عن غياب مسؤولين بارزين عن لائحة المتابعة رغم ذكر أسمائهم في تقارير لجنة التحقيق البرلمانية.
3. تضييق على القضاء وتسييس العدالة:
حيث شكلت إقالة رئيس محكمة الفساد، ووكيل الجمهورية المعنيين بالملف، وقبلهما إقالة وزير العدل السابق الذي نمي عنه أن إقالته جاءت بعد وصفه الملف المحال إليه من البرلمان بـ"الفارغ"، هذه مؤشرات من بين أخرى توحي بتداخل السياسي والقضائي في هذا الملف ما قد يؤثر على استقلالية القضاء، ويهدد مسار العدالة في البلاد.
4. الجدل الدستوري والقانوني:
الرئيس السابق تمسّك بمبدأ "الحصانة المطلقة"، مستندًا إلى المادة: 93 من الدستور، التي لا تجيز ملاحقة الرئيس إلا في حالة الخيانة العظمى، وبشروط محددة. كما طُرحت تساؤلات حول مدى مشروعية تطبيق قانون مكافحة الفساد (الصادر عام 2016) على أفعال سابقة لتاريخ صدوره، في مخالفة واضحة لمبدأ "عدم رجعية القوانين".
تداعيات سياسية وانتظارات شعبية
من المقرر أن يشهد تاريخ 14 مايو 2025 النطق بالحكم النهائي في الاستئناف، وهي محطة مفصلية قد تعيد تشكيل المشهد السياسي والقضائي في البلاد، سواء عبر تثبيت الأحكام أو تعديلها. حيث يترقب الشارع الموريتاني بقلق الإجابة عن أسئلة محورية:
- هل سيكون الحكم النهائي مُقنعًا قانونيًا وعادلاً قضائيا؟
- هل ستُبرّئ المحكمة المتهمين؟ وإذا حدث، هل سيُعاد لهم اعتبارهم السياسي والوظيفي كما وعد الوزير الأمين العام للرئاسة؟
- وهل كان الهدف من المحاكمة محاربة الفساد فعلاً ووضع لبنة قضائية في هذا الصرح الهام، أم أن كان مجرد تصفية حسابات سياسية وصراع بين أصدقاء الأمس غرماء اليوم؟
ويبقى ملف "العشرية" علامة فارقة في مسار العدالة والتاريخ السياسي الموريتاني.
في حين يعتبر استقلال القضاء هو الركيزة الأساسية لأي دولة قانون تسعى لترسيخ مبادئ العدالة والمساواة أمام القانون. وإن كان من الضروري محاسبة المسؤولين عن الفساد المالي والإداري خلال "العشرية"، إذا ثبت ذلك، فإن الأهم هو ضمان أن تتم تلك المحاسبة وفق إجراءات قضائية نزيهة، خالية من الانتقائية، ومجردة من الأهداف السياسية. فاستغلال القضاء لتصفية الخصوم لا يقوض فقط ثقة المواطن بالمؤسسات، بل يُهدد مستقبل العدالة في البلاد برمتها. وحدها العدالة المستقلة والشاملة، التي تُعامل الجميع على قدم المساواة، هي القادرة على بناء موريتانيا قوية، عادلة، ومتقدمة.