على مدار الساعة

أغلال تعيق الجزائريين

13 مايو, 2025 - 01:56
بقلم: عز الدين مصطفى جلولي - كاتب وأستاذ جامعي جزائري

الاحتراب الديبلوماسي

هنالك علاقة غير متوازنة بين الطرفين، تصب لمصلحة فرنسا كما كانت دائما. من الواجب ألا تكون الأنفة الجزائرية شعورا لا مفاعيل له على طاولة المفاوضات، أو أن تكون سحابة صيف تنجلي بلباقة فرنسية يلين أمامها الساسة الجزائريون. التفاوض الحقيقي هو أن تضع مقابلا لكل ما تأتي أو تدع، وهو ما لا تحسنه الدبلوماسية الجزائرية خلافا لنظيرتها الفرنسية. وللعلم فإن بيد الجزائر أوراق تفاوض قوية لم تحركها بعد، ولا أراها ستحركها.

 

ليست قضية الصحراء أولوية الأمة الإسلامية اليوم ولن تكون في المستقبل القريب. الحل الوحيد لهذه المسألة يكون في إطار الوحدة بين الأقطار المغاربية. المعاملة بالمثل تقتضي منع دبلوماسيين فرنسيين من دخول الأراضي الجزائرية، لا منع الدبلوماسيين الجزائريين الممنوع كثير منهم أصلا من دخول الأراضي الفرنسية! لكن الاتصال بين بعض الممنوعين الجزائريين وبين أصدقائهم الفرنسيين ممكن عبر وسائل التواصل، كما فعل المحكوم عليه بوعلام صنصال!

 

هذا المرء نموذج لرجال فرنسا في الجزائر، ظهر أمره للعلن على خلفية التقارب الفرنسي المغربي حول الصحراء، من حق العدالة أن تأخذ مجراها، ولكن كم بقي في دواليب الحكم الجزائري أمثال هذا "الموظف السامي"، المعين بمرسوم رئاسي؟!

 

احتضان قضية أي إنسان متهم وتسويقها على أنه كاتب، يسهم في التعمية على الحقيقة. ليست الكتابة فنا بريئا يلبسه المرء ليحترمه الناس ويتقي به شر فعاله. الكتابة فعل يتحمل الأوصاف الشرعية والقانونية كافة.

 

ناهيكم أن الجنسية المزدوجة لرعايا الدول المسلمة، إذا ما كانوا يحملون جنسية الدول الكافرة المستكبرة، ستكون حصان طروادة تتخذ للتدخل في القضايا الداخلية لتلك الدول. هذا ما لوحظ في قضية هذا المشبوه الجزائري الحامل للجنسية الفرنسية، الذي ما فتئ رئيسه "ماكرون" وإعلامه يطالب بإلغاء القرار القضائي الجزائري الذي أدانه.

 

من ها هنا ندرك خطورة أن تفتح كثير من الدول الغربية أبوابها على مصاريعها لهجرة الناس البسطاء إليها، ما يجعل البلدان الأصلية أمام مستقبل محفوف بمخاطر تتهدد وجودها، حينما يعود هؤلاء المهاجرون وذووهم إليها محملين بالجنسية الأجنبية، إنهم ربيئة أجنبية تستغل كورقة للتدخل في قضاياها السيادية.

 

السلطة عندنا بنت انقلاب 1992 م، وهي مدينة للناتو في تعزيز حكمها حينما كاد الإسلاميون أن يستلموا الحكم عبر الانتخابات. ليست في الجزائر عدالة حقيقية تستطيع تكييف الجرائم كما يجب، وليست هناك سياسة تعرف من أين يؤكل لحم الكتف. ما نراه مباراة ودية على إيقاع اللاعب الفرنسي. وهكذا تمضي الأمور منذ التاسع عشر من مارس عام 1962 م.

 

نخلص للقول إن القوتين الأوروبية والإفريقية لا تطيقان صبرا على البعاد، فليس مستغربا أن تتلون السياسة الفرنسية كالحرباء من أجل مصالحها، المهم ألا نتلون نحن إرضاء لها.

 

أحقا قوة ضاربة؟

للسلطة الجزائرية مصدات فعالة ضد الضغوطات الدولية لو أنها استخدمتها، فما تستفيده الولايات المتحدة من الجزائر أكثر مما تتلقاه الجزائر منها. كما أن زيادة الوعي الديني يحصن المجتمع، وأعني بالوعي الديني أن تصلح السلطة شأنها فترعى حق الله في بلاده وعباده. تلكم هي أسلحتنا الفتاكة الحقيقية، لا طائرات "السوخوي 57" الروسية.  

 

العسكرية لا تعرف الخطأ في التقدير، وليس إسقاط الطائرة داخل الحدود الجنوبية للجزائر ردا كافيا يردع. إنها ليست مزحة خشنة وأنت تؤخذ من خاصرتك الرخوة على حين غرة، كهذا تبدأ النزاعات والحروب من مستصغر الشرر. إن لأطراف كثيرة مصلحة مشتركة في جر الجزائر إلى حرب استنزاف، ليس الكيان الصهيوني إلا واحدا منها. تحصين الصف الداخلي بالوحدة والتسليم بحق الله في بلاده وعباده كفيل بالمنعة والانتصار.

 

ربما كان الوسم بدعوة الرئيس الجزائري إلى عدم المشاركة في قمة بغداد عفويا وربما كان مغرضا، لكن عفويته تشي بالحس الشعبي النافض يديه من العمل العربي المشترك وتأثيره الإيجابي على القضايا المصيرية كقضية فلسطين. تتحكم دول عددها لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة في القرار العربي، لما لها من قدرة على شراء الذمم أو من موقع تاريخي وجغرافي يجاور الأرض المحتلة أو من علاقة ما بداعمي الكيان، وجميع ذلك لا يعطي أصحابه أفضلية فرض رؤى ليست تصب في مصلحة الأمة بالضرورة. قمم عربية لا تستطيع إيصال حليب لأطفال يتضورون جوعا من وراء سياج قمم لا يرجى منها خير كثير.

 

لا فرق بين من يثبت عمالته شاهدا على نفسه بها أمام الملأ، وبين من يحول دون وحدة المغاربة في كيان يجمعهم على كلمة التوحيد. سوف تتداعى كل هذه الأصنام بإذن الله! وإن للشعوب قوة حين تصدح في التجمعات والمسيرات بقضية الأمة فلسطين وحين تصدح بالوحدة كذلك، لأنها أقصر طريق نحو التحرير.

 

الجزائر وداؤها الباطني

إن التنكب عن الوفاء للشعب الجزائري بـ"إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية"، كما ورد في بيان الفاتح من نوفمبر 54، هي الكتف المسمومة التي لقي حتفه كل من تجرأ على أن يطعم منها. ولا تزال معضلة الجزائر إلى اليوم تكمن ها هنا. أما سيناريوهات ذلك العقاب الإلهي وأبطاله فتأخذ في كل مسرحية إخراجا جديدا.

 

ألفت النظر بأن تاريخ الثورة الإيجابي والسلبي منه لا يزال الوقت مبكرا لإعادة قراءة حوادثه ووضعه في منظور الحقيقة الموضوعية بلا تهوين ولا تضخيم، كما أن ملف العشرية الحمراء امتداد لذلك التاريخ ونتاج له، فرنسا لاعبة ظاهرة وخفية في الفترتين. وتحقيق ذلك منوط بتغيير النظام السياسي كله، تغييرا يعيد إليه الشرعية الشعبية والمشروعية الأخلاقية.

 

الأمر الذي يسلم به هو الوحدة المدسترة بأقانيم المجتمع الجزائري الثلاثة: الإسلام والعربية والثقافة الأمازيغية، لكنها دسترة لم تجرأ بعد على تحليل هذه المكونات الثلاثة تحليلا علميا حرا. ولا أرى في ما قرره التاريخ عن الأمازيغية شيئا ما يناقض حقيقتها، وإلا كان المؤرخ الكبير محمد الأمين مغرضا لا سمح الله. المهم أن الهشاشة التي تضرب دواليب الدولة بأسرها لا تقتصر على الجامعة والإعلام وغيرهما كما يظن بعض الناس، بل إن دقائق معدودات من المقابلة الصحفية مع المؤرخ كانت كافية لكشف حقيقة الوضع الهش واصطفاف الشعب قبالة سلطته، وكان من الحكمة السياسية أن تصحح السلطة موقفها وتطلق سراح الرجل من دون تأخير، ثم تجلس إلى علماء الأمة الجزائرية وتتعلم.

 

على المثقفين الأحرار أن يكونوا أكثر حذرا في التعامل مع الإعلام، ولو كانت آراؤهم في القضايا الثقافية تستند إلى رؤية علمية. ثم إن ابن باديس الصنهاجي البربري نفسه تحدث عن عروبة الأمازيغ حين قال: "شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب"، وإلا فسروا لنا الفرق بين البربرية والأمازيغية إن كنتم تعلمون؟ وبينوا لنا من صنع الحرف اللاتيني للأبجدية الأمازيغية بدل التيفيناغ أو الحرف العربي؟

 

درست التاريخ الإسلامي في الجامعة الجزائرية مطلع التسعينيات عند المؤرخ محمد الأمين بلغيث وكان نعم الأستاذ! وهو اليوم رمز من رموز الأمة الجزائرية الشرفاء، والزج بالرجل في السجون كأي مجرم ليس من الحكمة السياسية في شيء، وعمل مشين من ممارسات العهد البائد في زمن الحزب الواحد، أبان هشاشة الموقف الذي تقفه السلطة الجزائرية، فخمس دقائق في القناة كانت كافية ليصطف الشعب ضدها، ولا بد عليها أن تراجع موقفها وتقف إلى جانب شعبها؛ لذلك وجب تحرير هذا العالم من سجنه وإعادة الاعتبار إليه فورا.