تشكّل زيارة الرئيس الانتقالي إبراهيم تراوري الثانية من نوعها إلى روسيا محطة مفصلية في سياسة بوركينا فاسو الخارجية، في ظل التحولات الجيوسياسية الراهنة بالساحل وإفريقيا والعالم. هذه الزيارة الرسمية ليست فقط للمشاركة في "يوم النصر الروسي"، بل جمعت الأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية والتعليمية، وتأتي في وقت حاسم تواجه فيه بوركينا فاسو تحديات وجودية.
في إحدى اللحظات البارزة خلال الزيارة، خاطب تراوري طلاب جامعة ديمتري مندلييف للتكنولوجيا الكيميائية في موسكو، مؤكداً أولوية التعاون العلمي والتعليمي في العلاقات الثنائية، وكشف النقاب عن مفاوضات جارية لإنشاء فروع للجامعات الروسية في بوركينا فاسو، في خطوة تهدف إلى نقل الخبرات التكنولوجية والنهوض بالتعليم العالي في بلاده.
هذا البعد التعليمي يضاف إلى الأجندة الأمنية الملحة للزيارة، حيث تسعى بوركينا فاسو - التي تواجه تهديدات الجماعات الجهادية بشكل متصاعد - إلى تعزيز التعاون العسكري مع موسكو، ويتضمن ذلك توريد أسلحة، تدريب كوادر الجيش، وربما الاستعانة بخبراء أمنيين روس، على غرار النموذج المطبق في مالي المجاورة والحليفة لها.
على الصعيد الاقتصادي، تبحث واغادوغو عن استثمارات روسية في قطاعات التعدين (خاصة الذهب الذي تزخر به البلاد)، والبنية التحتية، والطاقة.
هذا التوجه يأتي ضمن استراتيجية أوسع للتحرر من الهيمنة الفرنسية وتغيير الشركاء الدوليين، حيث تبرز روسيا كبديل جذاب للقوى الامبريالية الغربية التقليدية بالنسبة لدول تحالف الساحل.
أما البعد السياسي والأمني، فبوركينا فاسو تشهد مرحلة انتقالية منذ الانقلاب العسكري سنة 2022، ويواجه نظام تراوري تحديات أمنية كبيرة تسير من سيءٍ إلى أسوأ، فروسيا، عبر مجموعة "فاغنر" سابقًا (التي أعيد تنظيمها تحت مظلة وزارة الدفاع الروسية وتحت مسمى "الفيلق الأفريقي - الروسي")، تقدم دعماً أمنياً وعسكرياً لـحكّام باماكو ونيامي المتحالفتان مع واغادوغو، مما يجعل التعاون مع موسكو خيارًا جذابًا لحكومة تراوري.
إلاّ أن هذا التقارب الروسي يحمل في طياته تحديات جمة، أبرزها:
- التعاون مع روسيا قد يزيد من توتر العلاقات مع الغرب وحلف الناتو، وقد يُعرض بوركينا فاسو لعقوبات أو تقليص للمساعدات الإنمائية.
- وجود قوات روسية أو مرتزقة قد يثير انتقادات دولية حول انتهاكات محتملة لحقوق الإنسان، كما حدث في مالي.
- مخاطر الاعتماد المفرط على شريك وحيد، ورغم المكاسب قصيرة المدى، هناك مخاوف من عدم تعددية الشركاء، مما يحد من خيارات الشراكات.
جيوستراتيجياً، تعكس الزيارة تحولاً عميقاً في معادلات القوة بإقليم الساحل، حيث:
- يستمر التراجع الفرنسي لصالح النفوذ الروسي والصيني.
- تتعزز تحالفات "الممانعة" بقيادة بوركينا فاسو – مالي - النيجر.
- تتصاعد المنافسة الدولية على موارد القارة الإفريقية.
برزت زيارة الرئيس الانتقالي البوركينابي إبراهيم تراوري إلى موسكو بحضور وزيري الدفاع المالي والنيجري كمؤشر واضح على تشكل تحالف استراتيجي جديد في منطقة الساحل بالفعل، وهذا المشهد الثلاثي يطرح أسئلة عميقة حول طبيعة التحول الجيوسياسي الجاري في المنطقة.
الوزير المالي ساديو كامرا، الذي يوصف بأنه "رجل موسكو في باماكو"، يلعب دور المحرك الأساسي لهذا التحالف، فخبرته الطويلة في العلاقات الروسية - المالية وتاريخه كهمزة وصل بين العاصمتين، مكنته من لعب دور حاسم، الأكثر إثارة منه أن كامرا هو من أوصل نظيره النيجري ساليفو مودي الذي كان يوصف بـ"رجل الولايات المتحدة الامريكية في نيامي"، إلى دائرة النفوذ الروسي.
هذا المشهد الثلاثي في موسكو يشير بقوة إلى أن بوركينا فاسو تسير حثيثاً على خطى جارتيها مالي والنيجر.
في هذا السياق، يبدو احتمال انتشار قوات فاغنر (أو الفيلق الأفريقي - الروسي) في بوركينا فاسو أمراً مرجحاً، خاصة بعد النموذج المطبق في باماكو ونيامي.
ومن المحتمل أيضا أن تدعم موسكو ماديا ولوجستيا القوة المشتركة التي شكلها زعماء تحالف دول الساحل كما كانت باريس تفعل مع القوة المشتركة لدول الساحل الخمس (تشاد، بوركينافاسو، النيجر، مالي وموريتانيا)، قبل الانقلابات العسكرية.
هذا التحالف الثلاثي المدعوم من موسكو يضع أسساً لنظام أمني إقليمي جديد في الساحل، قد يشهد توسعاً مستقبلياً ليشمل دولاً أخرى في إفريقيا. ربما يشجع دولًا أخرى في غرب إفريقيا (مثل التوغو وتشاد أو غينيا أو غينيا بيساو التي كان رئيسها ضمن ضيوف بوتين) على الاقتراب من روسيا، مما سيعمق الانقسام بين الأنظمة الموالية للغرب وتلك التي تبحث عن شركاء جدد.
لكنه في الوقت نفسه يثير تساؤلات حول حدود هذا النموذج وتحدياته ونجاحه، خاصة في ظل التجارب الفاشلة السابقة للتعاون العسكري الروسي في القارة الأفريقية، في ليبيا وأفريقيا الوسطى والسودان على وجه الخصوص.
ختاما، هذا التحوّل الاستراتيجي يضع بوركينا فاسو في قلب معادلة إقليمية معقدة، حيث تترابط الفرص بالمخاطر في مشهد جيوسياسي متقلب، تبقى نتائجه مرهونة بقدرة الأطراف على تحقيق توازن دقيق بين المصالح الوطنية والتحديات الإقليمية والدولية.