لقد شهدت موريتانيا خلال العقود الماضية تطورا تدريجيا في أدوات السياسات الاجتماعية غير أن أغلب التدخلات ظلت لفترات طويلة موسمية أو قطاعية وغير مهيكلة ضمن رؤية تنموية مندمجة ، إلا أنه في السنوات الأخيرة شهد البلد تحولا نوعيا في الاهتمام بالفئات الهشة والتنمية المحلية خصوصا مع بداية المأمورية الأولى لرئيس الجمهورية الحالي حيث ظهرت مقاربة جديدة تعلي من شأن الفعل الاجتماعي بوصفه أحد أعمدة مشروعية الدولة المعاصرة لا باعتباره ملحقا إحسانيا أو تدخلا ظرفيا
وقد أنشأت لتحقيق أهداف هذا التوجه الاجتماعي التنموي مندوبية التآزر كترجمة عملية لما تم التعهد به في هذا السياق، لتتوالى بعدها المؤسسات و البرامج المماثلة والتي كان آخرها البرنامج الاستعجالي لتنمية نواكشوط والمنتديات الجهوية للتنمية المحلية والتي أعادت تعريف العلاقة بين المواطن وصانع القرار على أسس تشاركية.
هذه الحركية في الجوانب الاجتماعية وإن كانت تعكس انتقالا إيجابيا في فلسفة الدولة إلا أنها تظل مشروطة بقدرة المؤسسات على تمثيل نفسها داخل المجتمع وتثبيت منجزها في الوعي العام، لا من خلال البنية البيروقراطية فقط، بل عبر سرديات الاتصال والتنمية، التي تعيد إنتاج الإنجاز في شكل ذاكرة مشتركة ومثال وطني ،ومن هنا تنبع أهمية التسويق الاجتماعي، لا باعتباره أداة إعلامية بل كآلية استراتيجية لبناء شرعية الإنجاز وترسيخ الثقة الشعبية.
الإنجاز وحده لا يكفي: غياب التسويق الاجتماعي يعني غياب الأثر
تعد تجربة وكالة "تآزر" في هذا السياق مثالاً دالا، فبالرغم من حجم الإنجازات المحققة على الأرض في مجالات التأمين الصحي والتحويلات النقدية والبنية التحتية، إلا أن حضورها في المشهد الرمزي والوجداني ظل محدودا، نتيجة غياب منظومة تواصل فاعلة تبرز الأثر وتربط المواطن بما تحقق فعليا من تغيير. لقد بقيت مئات المشاريع في الظل ولم تتحول إلى قصص وطنية ولا إلى مواد تفاعلية تعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة ،وهو ما جعل التقدير العام للتجربة يتأخر رغم جديتها وفعاليتها، فالدولة حين لا تتكلم عن منجزها تفقد ملكيته الرمزية، ويُعاد تأويله خارج إرادتها.
إن المواطن لا يستقبل التنمية كمعطى خام بل يحتاج إلى أن يراها في صورته، أن يسمعها بلغته وأن يلامس أثرها عبر القصص والشهادات والتجارب الموثقة التي تعيد تشكيل وجدانه وثقته في الدولة
والتنمية التي لا تروى تترك عرضة للنسيان أو التوظيف السلبي أو حتى الإنكار!، لذلك فإن التسويق الاجتماعي ليس عملية دعائية بل مكون أساسي في بنية الفعل العمومي، يجعل من كل تدخل حالة تواصل، ومن كل مشروع مناسبة لبناء رأسمال رمزي للدولة.
إن المطلوب من تآزر ليس فقط مواصلة الإنجاز، بل التكلم عنه بلغة الناس، وبصوتهم، بتعابيرهم الجسدية ،فالتسويق الاجتماعي هنا ليس ترفا بل ضرورة وطنية لبناء الثقة وتعزيز الشعور العام بأن الدولة ترى مواطنيها وتستثمر فيهم.
مخرجات المنتديات الجهوية : فرصة للتدارك
ومع قرب إطلاق برنامج تعميم النفاذ للخدمات الضرورية للتنمية المحلية، يصبح من الضروري عدم تكرار الخطأ الاتصالي الذي شاب تجربة "تآزر" في بداياتها، فينبغي أن يكون التسويق الاجتماعي جزءا من تخطيط البرنامج وليس مجرد ملحق لاحق له، خصوصا أن هذه المشاريع ذات الأولوية المقرر إنجازها في مختلف بلديات الوطن ستنفذ عبر عدة وزارات خدمية لا عبر وكالة واحدة، ولذا خطر التشتت الاتصالي أكبر، ما يستوجب تنسيقًا موحدًا في الخطاب، ورؤية اتصالية وطنية تتبناها الحكومة ككل.
فالمطلوب ليس فقط إيصال الخدمات بناء المنشآت، بل إيصال المعنى، وتأطير التحول الاجتماعي ضمن رؤية جامعة تجعل من كل بلدية قصة، ومن كل تدخل حالة وعي، ومن كل مواطن شريكا في البناء لا متلقيا سلبيا.
جسر بين الرئيس والمواطن
في سياق تتسارع فيه المشاريع وتتعاظم التحديات يبقى التسويق الاجتماعي أحد أهم الدعامات لضمان نجاح برنامج رئيس الجمهورية، وترسيخ إنجازاته في وجدان المواطن،حيث تكمن أهمية هذا العمل الاعلامي الذي يسبق التنفيذ ويواكبه و يعقبه، في كونه دعامة محورية لإنجاح برنامج فخامة رئيس الجمهورية، الذي يجعل من المواطن مركز الاهتمام وهدف السياسات
فالتوثيق الذكي، والتسويق الاجتماعي الفعال، لا يعكسان فقط حجم العمل المنجز، بل يرسخان صورة القيادة القريبة من الناس، ويعززان ثقة المجتمع في جدية الدولة ومصداقية تعهداتها، فسرد القصص التنموية، وإظهار التحول في حياة الناس، وتحويل كل مشروع إلى حكاية حقيقية قابلة للتداول والتأثير، هو ما يمنح البرنامج الرئاسي حضورا دائما، وامتدادا وجدانيا يتجاوز لحظة الإنجاز إلى ذاكرة الأمة.