1 مقدمة:
رغم أن إدخال تقنيات المعلوماتية إلى الطب بدأ منذ عقود، فإن السنوات الأخيرة شهدت ثورة كبرى نتيجة التطور الهائل لتقنيات الذكاء الاصطناعي، خاصة مع ظهور الذكاء التوليدي وتطبيقاته في المجال الصحي، على مستويات التشخيص، والرعاية السريرية، ومراقبة الأوبئة، وإدارة الأنظمة الصحية.
ويرى كثيرون أن الرقمنة سيكون لها دور كبير جدًا في مستقبل الرعاية الصحية مما يُحتّم العمل على إتاحة هذه التقنيات للجميع، والحيلولة دون تحولها إلى سبب جديد للغبن، كما يشير الأمين العام لمنظمة الصحة العالمية.
ورغم المخاوف الشائعة من احتمال استبدال الأطباء بالآلات وخوارزميات الذكاء الاصطناعي، فإن الغالبية العظمى من الخبراء يرون أن الذكاء الاصطناعي سيعمل في تكامل وتآزر مع الذكاء البشري، مستخدمين مصطلح "الذكاء المعزَّز".
ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر لا يكمن في قدرة الخوارزميات بذاتها، بل في ندرة الكفاءات البشرية التي تجمع بين المعرفة الطبية الحيوية، والقدرة على فهم الخوارزميات والتعامل معها.
وكما قال أحد رؤساء الشركات الناشئة في مجال التعلم العميق: "نحن نعتمد على ثلاث ركائز: البيانات، ثم البيانات، ثم البيانات مرة أخرى".
في هذا المقال، سنستعرض بشكل منهجي وعلمي أبرز الإمكانيات الحالية للذكاء الاصطناعي في الممارسة الطبية، عبر مختلف التخصصات، مع التركيز على مجالين اثنين يرى الباحثون أنهما الأكثر تأثرًا: الأشعة التشخيصية، وعلم الأمراض النسيجي.
كما سنناقش مستقبل الممارسة الطبية في ظل هذه التطورات، بما في ذلك التساؤل الذي يُثار حاليًا عن إمكانية الاستغناء عن العامل البشري، وسنقدم في الأخير تحليلًا لوضعنا المحلي، وواقع الذكاء الاصطناعي فيه كبلد نامٍ لا تزال فيه الرقمنة الطبية ضعيفة، مما يفرض تحديات حقيقية ويخلق فرصًا خاصة.
2. تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحالية في الطب:
أصبح الذكاء الاصطناعي حاضرًا في معظم التخصصات الطبية وإن بدرجات متفاوتة، حيث يتواصل تطوير خوارزميات تعلم عميق (شبكات عصبية اصطناعية) لتحليل كم هائل من البيانات الطبية واستخلاص أنماط تساعد في التشخيص أو التنبؤ أو العلاج.
1.2 الذكاء الاصطناعي في الأشعة التشخيصية
تُعتبر الأشعة التشخيصية من أكثر التخصصات الطبية تفاعلاً مع تقنيات الذكاء الاصطناعي اليوم. وتعتمد الأشعة على تفسير الصور الطبية كالأشعة السينية، والتصوير الطبقي المحوري، والرنين المغناطيسي، وغيرها، وهي مهمة قائمة بالأساس على التعرف البصري على الأنماط، وهذا بالضبط ما تتقنه خوارزميات التعلم العميق.
فقد أدّى تطوّر الشبكات العصبية الالتفافية إلى قفزة هائلة في قدرة الحواسيب على تحليل الصور الطبية بدقة وسرعة. وقد أظهرت دلائل نشرتها دوريات علمية محكمة قفزةً هائلة في قدرة أدوات الذكاء الاصطناعي على زيادة دقة التشخيص وكفاءة كبيرة في كشف الشذوذات في مختلف أنماط الصور الطبية.
على سبيل المثال، تُستخدم خوارزميات حاسوبية حاليًا لتحديد وجود عقيدات سرطانية صغيرة في صور الأشعة المقطعية للرئة، أو أورام الثدي في التصوير الشعاعي للثدي، بدقة عالية قد تنافس الأخصائي البشري، بل وتتفوق عليه في بعض الأحيان.
ومن المؤشرات على مدى تقدم الذكاء الاصطناعي في الأشعة تحديدًا، استئثاره بالنصيب الأكبر من أنظمة الذكاء الاصطناعي الطبية المعتمدة رسميًا. ففي الولايات المتحدة، ومن بين خمسمائة خوارزمية ذكاء اصطناعي طبي تم اعتمادها، كانت نسبة 75% منها تتعلق بالأشعة التشخيصية، حسب معطيات هيئة الغذاء والدواء الأمريكية في عام 2023، ليتزايد العدد بسرعة إلى 723 خوارزمية خاصة بالأشعة من مجموع 950 خوارزمية في عام 2024.
وقد وجد استطلاع نشرته مجلة Nature العلمية المحكمة أن 84% من عيادات الأشعة في الولايات المتحدة تبنّت بالفعل برمجيات ذكاء اصطناعي، أو تخطط لذلك قريبًا.
ومن الأمثلة: استخدام بعض المستشفيات خوارزميات لكشف السكتة الدماغية النزفية على الأشعة المقطعية للدماغ في دقائق قليلة، من أجل فرز الحالات المستعجلة وتنبيه الطبيب عليها لتدبيرها بسرعة، مما يختصر وقت التشخيص الحَرِج.
هذا التقدم الهائل والواعد في نفس الوقت، دفع رائد علم الحاسوب جيفري هِنتون عام 2016 إلى دعوة طلبة الطب إلى التوقف عن دراسة تخصص الأشعة، مما أثار ضجة ومخاوفا في الأوساط الطبية.
إلا أن الرأي السائد اليوم، والأكثر واقعية، يؤكد على التكامل بدل الاستبدال. وكما قال البروفيسور كورتيس لانجلوتز، أخصائي علم الأشعة في جامعة ستانفورد: "لن يستبدل الذكاء الاصطناعي أطباء الأشعة، ولكن طبيب الأشعة الذي يستخدم الذكاء الاصطناعي سوف يستبدل طبيب الأشعة الذي لا يستخدمه".
هذا التصور يشير إلى أن أدوات الذكاء الاصطناعي ستصبح جزءً هامًا من ممارسة الأشعة، تساعد الأطباء في أداء المهام الشاقة والمتكررة بسرعة ودقة، بينما يبقى للطبيب البشري الدور الإشرافي والتكميلي، الذي يجمع بين نتائج الذكاء الاصطناعي والسياق الكلينيكي السريري للمريض، لاتخاذ القرار النهائي.
وهو ما سيسمح بتوفير وقت إضافي لطبيب الأشعة للتواصل مع المرضى، وفهم قصصهم المرضية بشكل أعمق، بدل الأعمال الروتينية المتكررة.
2.2 الذكاء الاصطناعي في علم الأمراض التشريحي
يُعنى علم الأمراض التشريحي (الباثولوجيا) بفحص الأنسجة والخلايا لتشخيص الأمراض، وخاصة الأورام، ويتقاسم مع الأشعة التشخيصية اعتمادهما على تحليل الصور في ضوء المعطيات السريرية للوصول إلى التشخيص.
وقد بدأ الذكاء الاصطناعي يؤثر بقوة في هذا المجال، مع ظهور ما يُعرف بعلم الأمراض الرقمي، حيث يتم مسح شرائح الخزعات المرضية بواسطة الماسحات الضوئية عالية الدقة لإنتاج شرائح مجهرية رقمية كاملة يمكن للخوارزميات تحليلها.
هذا التطور الحديث نسبيًا (مسح الشرائح بالكامل) وفر أرضية صلبة لإدخال التعلم العميق في تحليل الخلايا والأنسجة بنفس الطريقة السابقة لتحليل الصور الشعاعية.
وقد أظهرت العديد من الدراسات خلال السنوات الأخيرة أن خوارزميات الذكاء الاصطناعي يمكنها اكتشاف السرطان في الشرائح النسيجية بدقة مذهلة. ففي دراسة تجميعية نشرتها مجلة "نيتشر"، شملت 100 دراسة و152 ألف صورة شريحة مرضية رقمية، أن متوسط حساسية الخوارزميات كان في حدود 96.3%، مع تحليل نوعي وصل 93.3%، وعبر طيف واسع من الأمراض والتخصصات الفرعية في علم الأمراض التشريحي، وهو ما يقترب من أداء المتخصصين، بل يتفوق عليهم في بعض المهام الدقيقة كالبحث عن النقائل الورمية المجهرية الصغيرة.
ورغم هذا التطور، ما يزال تأثير الذكاء الاصطناعي على علم الأمراض محدودًا مقارنة بالتشخيص الشعاعي، إذ إنّ معظم المستشفيات حول العالم لم تتحول بعد بشكل كامل إلى نظام الشرائح الرقمية، فما يزال الكثير منها يستخدم الشرائح الزجاجية المجهرية التقليدية.
وعملية مسح الشرائح رقميًا مكلفة، وتستهلك وقتًا كبيرًا، وتنتج ملفات ذات حجم هائل، إضافة إلى تحفّظ بعض الأطباء حيال الوثوق بالخوارزميات في تشخيص حالات مصيرية كالسرطان، ولذلك يجري دمجها بحذر.
كما أن هناك اعتبارات أخلاقية وقانونية مهمة تتعلق بالمسؤولية القانونية عن الأخطاء الطبية في هذا المجال الحساس.
والخلاصة، أنه حتى الآن يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي كأداة تكميلية قوية ستعمل جنبًا إلى جنب مع أخصائي الأمراض: قد تقوم في المراحل الأولية بفرز الشرائح وتحديد الشرائح المرضية، بل ووضع دوائر حول المناطق المشبوهة على الصور الرقمية، ليقوم الطبيب بمراجعتها بعناية.
كما أن هذه الخوارزميات يمكن أن تساعد في توحيد التقييم، وتقليل التباين في التشخيص بين الأطباء، والقيام ببعض الأعمال الرتيبة مثل عدّ الخلايا المنقسمة.
ويبقى الترتيب النهائي للمعلومات، وربطها بالمعطيات السريرية للمريض، ووضع التشخيص النهائي، مقصورًا على الطبيب حتى الآن.
3.2 تخصصات طبية أخرى تأثرت بالذكاء الاصطناعي
إلى جانب الأشعة وعلم الأمراض التشريحي، تشهد تخصصات طبية عديدة تطوير تطبيقات ذكاء اصطناعي واعدة، بل إن أول نظام تشخيص آلي مستقل يقوم بوضع التشخيص دون تدخل الطبيب، كان برنامج تحليل صور شبكية العين لكشف اعتلال الشبكية السكري، الذي حصل عام 2018 على موافقة هيئة الغذاء والدواء الأمريكية، كأول خوارزمية تشخيص طبي مستقلة لا تتطلب إشراف طبيب.
دائمًا في سياق تحليل الصور، شهد تخصص الأمراض الجلدية تطوير خوارزميات تفوقت على مجموعة من أطباء الجلدية في تشخيص صور أورام الميلانوم الجلدية.
ورغم أن هذه النتائج تمت في بيئات بحثية مضبوطة، فقد بدأت تظهر تطبيقات مشابهة على الهواتف الذكية، وُجّهت إلى الممارسين العامين، وحتى إلى الجمهور، لتنبيه المستخدمين إلى خطورة البقع الجلدية ووجوب عرضها على الطبيب.
وهو ما دفع أطباء الأمراض الجلدية إلى التأكيد على أن هذه الأدوات ليست بديلاً عن استشارة الطبيب.
لكنها ربما تساهم في تحسين الاكتشاف المبكر لسرطان الجلد، خاصة في المناطق التي تعاني نقصًا في الخدمات الطبية.
اختصاص أمراض القلب والأوعية استفاد أيضًا من تقنيات الذكاء الاصطناعي في عدة مجالات، منها على سبيل المثال: تطوير خوارزميات خاصة للمساعدة في التحليل العميق لمخططات القلب الكهربائية، وكذلك في تحليل صور الرنين المغناطيسي، وصدى القلب.
وكان للجراحة أيضًا نصيبها، حيث يتم تجريب نظام رؤية حاسوبية لمساعدة الجرّاحين في غرف العمليات على تمييز الهياكل التشريحية كالأوعية والأعصاب، وتنبيههم إذا كانوا على وشك إصابة أحدها.
وفي جراحة الأورام، يتم تطوير نظارات أو كاميرات واقع معزّز، تعرض للجراح حدود الورم وتساعده على إزالته بشكل كامل.
ولعل الإنجاز الأهم في مجال الجراحة هو الروبوت الجراحي، الذي يُوجَّه بالكامل من قبل جراح قد يكون على بُعد آلاف الكيلومترات.
وفي مجال الطب الباطني والرعاية الأولية، نجد فئة خاصة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي تُسمى "أنظمة دعم القرار السريري"، وهي برمجيات متطورة يتم تغذيتها بالأعراض والعلامات ونتائج التحاليل الطبية للمريض، وتقترح قائمة تشخيصات محتملة مرتبة حسب الأرجحية، وربما تقترح فحوصًا إضافية.
وبعض هذه الأنظمة تم إدماجه في نظم السجلات الإلكترونية بعض المستشفيات المتطورة. كما أن بعضها يشغل كتطبيقات على أجهزة الهاتف الذكية، وفي بعض المواقع الإلكترونية ولعلها مما يدفع الكثيرين، من غير المختصين، إلى الجزم بأن استبدال الطبيب بالذكاء الاصطناعي بات قريبًا.
ظهر كذلك ما يسمى بـ"خوارزميات التنبؤ"، والتي تعتمد على معطيات المريض للتنبؤ باحتمال تدهور حالته، وربما نقله إلى العناية المركزة قبل 48 ساعة من حدوث ذلك.
تخصص الصحة العامة وعلم الوبائيات استفاد أيضًا من القدرة الكبيرة للذكاء الاصطناعي على تحليل البيانات الضخمة.
بل إن منظمة الصحة العالمية أشارت إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يوفر أدوات متقدمة للرصد الوبائي، والاستجابة للأوبئة، وتحسين إدارة أنظمة الصحة العامة.
واستنادًا إلى ما سبق، فإن معظم التخصصات الطبية استفادت بدرجات متفاوتة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي وخوارزمياته، والتطورات في هذا المجال متسارعة، وما كان تجريبيًا قبل سنوات أصبح واقعيًا اليوم، وما هو قيد البحث والتجربة الآن قد يصبح ممارسة معتادة قريبًا جدًا.
والقاعدة في الذكاء الاصطناعي أن التطور يُقاس غالبًا بالأشهر، لا بالسنوات.
3. فوائد ومخاطر الذكاء الاصطناعي الطبي:
يمتاز الذكاء الاصطناعي في الطب بعدة نقاط قوة تجعل دمجه في الرعاية الصحية أمرًا نافعًا:
- معالجة النقص في الكوادر الطبية:
تعاني العديد من الدول (خاصة منخفضة ومتوسطة الدخل) من نقص حاد في عدد الأطباء المتخصصين بالنسبة لعدد السكان، ويمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد في سد الفجوة عبر توفير مستوى من الخبرة الآلية عندما لا يتوفر الخبير البشري. وتشير منظمة الصحة العالمية إلى أن التقنيات الرقمية (ومنها الذكاء الاصطناعي) قد تساهم في إيصال الخدمات الصحية للمناطق النائية ورفع جودة الرعاية في الدول النامية.
- زيادة الكفاءة وتسريع العمل:
يستطيع الذكاء الاصطناعي إنجاز المهام التشخيصية الروتينية بسرعة تفوق البشر، مما يوفر وقت الطبيب ليركّز على الحالات المعقدة، ويقلل أوقات الانتظار للحصول على النتائج، ويسرّع بدء العلاج، وهو أمر حيوي خاصة في الحالات الحرجة.
- تحسين دقة التشخيص وتقليل الأخطاء:
لقد وُجد أن الجمع بين قرار الطبيب وقرار الخوارزمية أحيانًا يعطي نتيجة أدق من أيٍّ منهما منفردًا، لأن خوارزميات الذكاء الاصطناعي بارعة في اكتشاف الأنماط الخفية أو التفاصيل الدقيقة التي قد يغفل عنها الإنسان، مثل تغيّرات طفيفة بين عشرات الصور التسلسلية للمريض أو ارتباطات غير بديهية بين نتائج مختبرية مختلفة تشير لخطر قادم.
- تخفيف الأعباء الروتينية عن الأطباء:
يمكن للذكاء الاصطناعي أتمتة بعض هذه المهام حيث بدأت مثلًا أنظمة التعرف الصوتي المبنية على الذكاء الاصطناعي بكتابة التقرير الطبي أثناء تحدث الطبيب، مما يوفر عليه عناء الكتابة اليدوية. ومع مزيد من التطوير، قد يعتني الذكاء الاصطناعي بتلخيص ملف المريض للطبيب قبل الزيارة، أو تذكيره بالمهام الهامة (مثل متابعة نتيجة فحص معين تأخر صدوره).
- تعزيز الطب الشخصي (Personalized Medicine):
بسبب قدرة الذكاء الاصطناعي على تحليل بيانات متعددة المصادر (صور، جينات، سجلات طبية، أجهزة مرافقة)، يمكن له تقديم رؤية شاملة عن المريض، واقتراح العلاج الأنسب لمرضه بشكل خاص.
- التوفر الدائم:
بخلاف الإنسان، الذكاء الاصطناعي متاح 24/7 دون انقطاع أو تعب، ويمكن الاعتماد عليه لتوفير خدمة تشخيصية تعمل في أي وقت، كميزة مهمة للطوارئ ليلًا أو في الأوبئة عندما يزيد العبء بشكل مفاجئ.
ورغم كل هذه الفوائد، هناك تحديات جوهرية يجب معالجتها لضمان تطبيق آمن وفعّال للذكاء الاصطناعي في الطب:
- تحيز البيانات:
تعتمد نظم الذكاء الاصطناعي على البيانات التي تُدرَّب عليها، فإذا كانت هذه البيانات الطبية خاصة أو منحازة (مثلاً معظمها من مرضى في بلد أو عرق معين)، فقد يؤدي ذلك إلى أداء ضعيف أو متحيّز عند تطبيقها على فئات مختلفة من المرضى. على سبيل المثال، خوارزمية مُدرَّبة على صور جلد لأشخاص ذوي بشرة بيضاء قد لا تعمل بدقة على أصحاب البشرة السمراء. كثير من خوارزميات الأشعة وعلم الأمراض طُوّرت واعتمدت على بيانات من مستشفيات عالية الموارد في أمريكا أو أوروبا، مما يثير تساؤلات حول أدائها في البيئات منخفضة الموارد أو ذات خصائص سكانية مختلفة.
- المخاطر القانونية والأخلاقية:
فيما يتعلق بمسؤولية الخطأ الطبي إن حدث بسبب توصية خاطئة من الذكاء الاصطناعي، وأيضًا بسرية الملف الطبي. هناك أيضًا مخاوف أخلاقية من الاعتماد المفرط على الآلة في قرارات مصيرية تمسّ حياة الإنسان وكرامته. وقد حذّرت منظمة الصحة العالمية مؤخرًا من أن إدخال تقنيات ذكاء اصطناعي جديدة بسرعة، بدون اعتبارات كافية، يمكن أن يكون "خطيرًا"، خصوصًا في الدول منخفضة الدخل.
- تحديات التكامل في سير العمل:
إدخال نظام ذكاء اصطناعي إلى مرفق صحي ليس بالأمر البسيط، إذ يجب دمجه مع أنظمة المستشفى الإلكترونية، وبعض الأطباء قد يجدون هذه الأدوات عبئًا إضافيًا في البداية (كاضطرارهم لتعلّم واجهة جديدة أو التأكد من نتائج الخوارزمية مع كل حالة) وإذا لم يُصمَّم النظام بالتشاور فقد يُرفض أو يُستعمل بشكل سطحي.
- البنية التحتية والتجهيزات:
يمثل ضعف البنية التحتية الرقمية عائقًا خاصة في البلدان النامية فالذكاء الاصطناعي يتطلب حواسيب قوية أو اتصالًا قويا بالإنترنت، ويتطلب أيضًا توفر السجلات الطبية الإلكترونية لإمداده بالبيانات وفي أماكن ما تزال السجلات ورقية بالأساس (وهي حالة كثير من عندنا)، سيكون على منظومات الصحة أولًا بناء البنية التحتية الرقمية قبل الحديث عن الذكاء الاصطناعي. أيضًا الحاجة للكهرباء المستقرة والتبريد (لحفظ الخوادم) والصيانة المستمرة قد تكون تحديًا في البيئات محدودة الموارد.
- الكلفة المادية:
رغم توافر بعض حلول الذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر، إلا أن النظم المعتمدة غالبًا ما تكون مكلفة – سواء في شراء الترخيص أو في التطوير الداخلي. كذلك هناك تكلفة خفية لتوظيف خبراء تقنيين وتشغيل خوادم حاسوبية عالية الأداء. هذه الكلفة قد تجعل تبني التقنية صعبًا على المستشفيات الصغيرة أو الميزانيات المحدودة.
4. مستقبل الممارسة الطبية في ظل تطور الذكاء الاصطناعي:
لا شك أن الذكاء الاصطناعي سيغير ملامح الممارسة الطبية، إذ يتوقع الخبراء أن يتطور دور الطبيب ليصبح أكثر تركيزًا على الإشراف والتقييم الإكلينيكي، بينما تتولى الخوارزميات جمع المعلومات واقتراح التشخيصات ومن أبرز التحولات المتوقعة:
- تحوّل في دور الطبيب:
سيقوم الطبيب بدور "المحقق السريري" الذي يتحقق من نتائج الخوارزميات ويضيف خبرته وحدسه والسياق الإنساني، بدلاً من أداء المهام التكرارية.
- وظائف جديدة في القطاع الصحي:
من المتوقع أن تظهر أدوار مثل "طبيب معلوماتية طبية" أو "مهندس الذكاء الاصطناعي الإكلينيكي"، لتنسيق العلاقة بين التكنولوجيا والممارسة الطبية.
- تغيير مناهج التعليم الطبي:
ستُضاف موضوعات مثل علوم البيانات، الخوارزميات، وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي إلى مناهج كليات الطب. وسيتدرج الأطباء بين مستخدم واعٍ، ومطوّر، ومحلل.
- قرارات طبية مدعومة بالبيانات:
القرارات السريرية ستعتمد بشكل متزايد على تحليلات ضخمة لحالات سابقة، مما يقلل التباين بين الأطباء ويقرّب الجميع من أفضل الممارسات المبنية على الأدلة.
- تعميق العلاقة الإنسانية مع المريض:
بفضل تقليل العبء الإداري، سيكون لدى الأطباء وقت أطول للتواصل مع المريض والاستماع إليه، مما يعيد للطبيب دوره الإنساني كحكيم ومرافق ومرشد للمريض.
- تغير شكل بعض التخصصات:
قد نرى اندماجًا بين بعض التخصصات، وظهور تخصصات تشخيصية متعددة الوسائط. كما قد تتوسع مهام بعض المهن الصحية بدعم من أدوات الذكاء الاصطناعي.
- اللمسة البشرية تظل أساسية:
رغم التقدم التقني، فإن التعاطف، والفهم العميق لتجربة المريض، واتخاذ القرارات المعقدة ستظل مسؤولية إنسانية. ولهذا يفضل بعض الخبراء استخدام مصطلح "الذكاء المعزز" في المجال الصحي بدلًا من "الذكاء الاصطناعي".
6. السياق الموريتاني: التحديات والفرص:
تعتبر موريتانيا مثالًا على بلد نامٍ في طور تطوير بنيته التحتية الصحية والرقمية، مما يجعل إدخال الذكاء الاصطناعي عملية ذات تحديات خاصة.
ولفهم الواقع، من المفيد ملاحظة أن نسبة كبيرة من المستشفيات والعيادات ما تزال تستخدم النظم الورقية في تسجيل البيانات الصحية للمرضى.
ولا يوجد حتى الآن نظام وطني موحد للسجلات الطبية الإلكترونية، وهو ما يعني أن البيانات الصحية ما تزال متناثرة وغير منظمة، مما يجعل تطبيق حلول الذكاء الاصطناعي التي تعتمد على تحليل البيانات أمرًا صعبًا للغاية.
كما أن البنية التحتية التقنية، كشبكات الإنترنت عالي السرعة والخوادم المحلية، ما تزال محدودة، خاصة خارج العاصمة نواكشوط والمدن الكبرى.
وبإيجاز، هناك عقبات عملية واضحة لا بد من تجاوزها في موريتانيا قبل جني ثمار الذكاء الاصطناعي أو المعزَّز في المجال الصحي.
.
- تطوير البنية التحتية الرقمية:
لا بد من الاستثمار في تجهيز المستشفيات بالحد الأدنى من الحواسيب، والاتصالات، والشبكات الداخلية، مع تبني مشروع الملف الصحي الإلكتروني لكل مريض، فبدونه لا يمكن تشغيل أغلب تقنيات الذكاء الاصطناعي الفعالة.
وربما يكون البدء، مثلًا، ببناء قواعد بيانات رقمية وطنية شاملة للأشعة، أو بيانات وطنية شاملة للأنسجة.
- بناء القدرات البشرية:
فالكادر البشري هو العنصر الأهم في نجاح أي برنامج، لذا لا بد من البدء في برامج تدريب للأطباء والطواقم الصحية على المهارات الرقمية، وتشجيع الباحثين على الانخراط في مشاريع الذكاء الاصطناعي الصحي عبر الجامعات والتعاون العلمي الدولي.
- توفير الموارد المالية:
ينبغي إدماج الإنفاق على التكنولوجيا الصحية ضمن الميزانية الصحية السنوية، فـالاستثمار في التقنية هو استثمار في تحسين الكفاءة وتقليل الكلفة على المدى البعيد.
ومن المهم القناعة من الآن بأن تكلفة التخلف تقنيًّا ستكون أعلى من تكلفة الاستثمار الآن.
ورغم هذه التحديات، فإن فرصة القفزة التقنية متاحة لموريتانيا، التي لا تمتلك نُظمًا تقليدية متجذرة يكلّف استبدالها ميزانيات إضافية.
كما أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي والصحة الرقمية بشكل عام، يمكن أن تساعد في إيجاد حلول لنقص الكوادر الصحية، إذا تم تكييف هذه التقنيات والتطبيقات مع الواقع المحلي والبنية الصحية الوطنية.
6. خاتمة:
يمثل الذكاء الاصطناعي أداة ثورية تعِدُ بإعادة تشكيل ملامح الرعاية الصحية على مستوى العالم، أكثر مما نلحظه حتى الآن.
وقد شهدت أغلب التخصصات الطبية تفاعلًا مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي بدرجات مختلفة، وكان للتخصصات التشخيصية النصيب الأكبر من هذه التطبيقات.
وبالنسبة لبلدنا موريتانيا، تُشكّل هذه التقنية فرصة تاريخية لتحسين النظام الصحي بوتيرة أسرع من الطرق التقليدية.
لكن ذلك يتطلب رؤية استراتيجية، واستثمارًا حقيقيًا في البنية التقنية والموارد البشرية.
إن سد الفجوة الرقمية بشكل عام، والصحية منها بشكل خاص، يجب أن يُصبح جزءً من أهداف التنمية الوطنية، لكي لا تتخلف منظومتنا الصحية عن الثورة الحالية.
ولحسن الحظ، تظهر الإرهاصات الأولى التخطيط السليم في هذا الاتجاه، من خلال ما اطّلعت عليه من الاستراتيجيات الوطنية في المجال الرقمي والمجال الصحي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) أستاذ مساعد في كلية الطب – رئيس قسم التشريح المرضي، المركز الوطني للأورام – نواكشوط - مهتم بالمعلوماتية الطبية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في المجال الصحي