على مدار الساعة

موريتانيا في قلب الصراع الدولي على المعادن الاستراتيجية

6 مايو, 2025 - 16:23
الدكتور يربان الحسين الخراشي - باحث في مجال الصناعة الاستخراجية

لا يخفى على أحد أنّ النفط أو الدم الذي يجري في شريان الاقتصاد العالمي قد شكل منذ مطلع القرن العشرين أحد أهم أسباب الصراع في العالم، ومع دخول العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين بدأت تتسارع جولة جديدة من الثورة العلمية والتكنولوجية والتحول الصناعي الذي يتميز بانخفاض بصمة الكربون، حيث انتقال الاقتصاد العالمي من الاعتماد على الوقود الأحفوري إلى مزيج من الطاقة أكثر تنوعًا، وهو انتقال يعتمد بشكل حاسم على إمدادات مستقرة ووفيرة من المعادن الهامة، التي حلت محل الأيديولوجيا وأصبحت ساحة المعركة الأساسية للمنافسة والصراع بين القوى الكبرى. الصراع الذي أصبح يتميز بتجاوز المنافسة التجارية البحتة إلى منافسة استراتيجية تترجم فيها السيطرة على سلاسل التوريد إلى نفوذ اقتصادي، وقوة جيوسياسية، وهو ما حول دولا كثيرة إلى ساحة معركة بسبب مواقعها المهمة في خريطة التعدين العالمي للمعادن الاستراتيجة كالليثيوم، والنحاس، والكوبالت، والنيكل، والجرافيت، والتربة النادرة، والحديد، وعلى رأس هذه الدول أوكرانيا، وتشيلي وبيرو، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وموزامبيق، وإندونيسيا، والفلبين، وكازاخستان، ودول منطقة الساحل الإفريقي.

 

(1)

أمريكا ومحاولات العودة إلى الريادة

يعرّف المجلس الوطني للعلوم والتكنولوجيا في الولايات المتحدة المعادن الحرجة بأنها المعادن المعرضة لانقطاعات سلسلة التوريد، والتي تشكل أهمية بالغة في تصنيع المنتجات التي قد يؤدي غيابها إلى عواقب اقتصادية أو أمنية كبيرة، كما يعرّف المعادن الاستراتيجية بأنها مجموعة فرعية من المعادن الحرجة التي لا غنى عنها بالنسبة للأمن القومي، وقد تضمنت قائمة المعادن الحرجة التي أصدرتها أمريكا سنة 2018 ما مجموعه 35 معدنًا، وقد ارتفع عددها إلى 50 معدنًا في القائمة المحدثة في عام 2022، وتعتمد الولايات المتحدة بشكل كبير على الصين في الحصول على عدة أنواع من هذه المعادن، إذ تشير بيانات هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية إلى أنه من بين 31 معدنًا رئيسيًا مهمًا في الولايات المتحدة، هناك 26 معدنًا يصل معدل الاعتماد على الخارج فيها إلى أكثر من 50%، ومن بينها 18 نوعًا يتم استيرادها بشكل رئيسي من الصين أو أن بلد الإنتاج الرئيسي لها هو الصين، وعلى وجه التحديد تستورد الولايات المتحدة كل حاجتها من الزرنيخ، والجرافيت، والتنتالوم، والإتريوم، من الصين؛ كما تستورد 95% من معادن التربة النادرة و94% من البزموت من الصين أيضا، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تستورد كل حاجتها من الغاليوم والإنديوم والفلوريت من اليابان، وكوريا الجنوبية، والمكسيك على التوالي، إلا أن إنتاج الصين من الغاليوم والإنديوم والفلوريت يمثل 98% و66% و65% من إجمالي الإنتاج العالمي على التوالي، ومن أجل تعزيز سيطرتها على المعادن الحرجة عالميا، اعتمدت الولايات المتحدة استراتيجية جديدة من ثلاثة نماذج للتعاون على رأسها التعاون المباشر مع الدول النامية المنتجة للمعادن من خلال القنوات الثنائية؛ وكذلك استخدام الحلفاء لدعمها في إعادة هيكلة نمط تطوير هذه المعادن ؛ بالإضافة إلى التأثير على سياسات التعدين عالميا، فقد طرحت الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة بشكل متكرر ما يسمى "النظام الدولي القائم على القواعد" وحثت المجتمع الدولي على اعتبار الصين مخالفة لهذه القواعد، ومن ناحية أخرى، عززت الولايات المتحدة تنسيق السياسات مع حلفائها، وسارعت إلى صياغة معايير معدنية جديدة تتوافق مع المصالح الأميركية والغربية، وأدرجتها بشكل استباقي في القواعد الدولية لتقييد مشاركة الصين، كما أطلقت الولايات المتحدة وحلفاؤها "مبادرة الشفافية في الصناعات الاستخراجية" و"المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة" لتعزيز الرقابة على المعادن الحيوية، وبهذه الطرق باتت أمريكا تدفع المجتمع الدولي إلى الاعتقاد بأن المعادن الحرجة في الصين "لا تلبي المعايير"، و"لا تتوافق مع قيم الدول الديمقراطية"، و"تنتهك القواعد الدولية"، وهذا ما سيساهم في تأخير أو حتى تقويض اعتراف المجتمع الدولي بتقنيات ومعايير الصين الخاصة بالمعادن الحرجة، وبالتالي تحقيق هدف الحد من نفوذ الصين وصوتها في حوكمة المعادن الحرجة عالميا.

 

(2)

الصين اللاعب المسيطر

تُعرّف الصين المعادن الحرجة الهامة بأنها "المعادن التي لها أهمية استراتيجية كبيرة للبلاد، وكذلك المعادن التي لها أهمية اقتصادية كبيرة والمعادن التي تلعب دوراً رئيسياً في الصناعات الناشئة الاستراتيجية، ويعتمد بشكل كبير على استيرادها من الخارج، وخلال عام 2018، أصدرت الصين كتالوج المعادن الرئيسية الاستراتيجية للصين في العصر الجديد، والذي أدرج 21 نوعًا من الموارد كمعادن رئيسية استراتيجية، ومن المعروف أن الصين تلعب دوراً محورياً في توفير المعادن الرئيسية عالميا، حيث تسيطر على معالجة حوالي 85% من عناصر التربة النادرة في العالم، و55% من الليثيوم، و76% من الكوبالت، و42% من النحاس، وهذه السيطرة لا تعزز فقط زعامتها عالميا في سلاسل توريد المعادن الرئيسية التي تعتبر ضرورية لتقنيات تخزين الطاقة مثل بطاريات السيارات الكهربائية، بل إن سيطرة الصين تغطي سلسلة القيمة بأكملها، وبالتالي تعزيز نفوذها على اتجاهات العرض العالمية وأسعار هذه المعادن، علاوة على ذلك، تهيمن الصين أيضًا على تصنيع مكونات البطاريات، حيث تنتج 97% من الأنودات الاصطناعية في العالم، و79% من الأنودات الطبيعية، و70% من الكاثودات، وهو ما يمثل 79% من إنتاج بطاريات الليثيوم. إن هذه السيطرة الشاملة على المعادن الحيوية ليست دليلا على القوة الصناعية للصين فحسب، بل دليلا أيضاً على هيمنتها الاستراتيجية على سلسلة التوريد، ولذلك أصبحت مركبات الطاقة الجديدة، والبطاريات الليثيوم، والطاقة الشمسية أمثلة ناجحة لتفوق الصناعات الصينية على الصناعات الغربية، وشكلت مزايا تنافسية صناعية قوية في السوق الدولية، وربما هذا ما يعكس حجم استثماراتها في الطاقة النظيفة التي شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في عام 2024، حيث وصلت إلى 940 مليار دولار، وهو ما يعادل تقريباً إجمالي حجم استثمارات أمريكا، وأوروبا، وكندا، والهند مجتمعين في هذا المجال. الصين أيضا أصبحت هي المنتج الأول للسيارات الكهربائية باستحواذها على حوالي 58% من السوق العالمية، وكلمة السر في ذلك تكمن في تحكمها في أكثر من 60% من المعادن المستخدمة في بطاريات السيارات الكهربائية، كما باتت الشركات الصينية تهيمن على أكثر من 80% من سلسلة التوريد العالمية للألواح الشمسية في العالم، وهذا ما يجعل من الصين اللاعب المسيطر وربما بلا منافس مستقبلا في أسواق الطاقة النظيفة.

 

(3)

أوروبا متأخرة عن الركب

بالمقارنة مع الولايات المتحدة لا يعد الاتحاد الأوروبي أحسن حالا، إذ يستورد الاتحاد حالياً معظم المعادن الحيوية من الخارج، وعلى سبيل المثال يعتمد على  تركيا في 98% من البورون ، وترتفع هذه النسبة إلى 100% بالنسبة لاعتماده على الصين في توفير معادن التربة النادرة، في حين تقدم جنوب إفريقيا حوالي 71% من احتياجاته إلى البلاتين، وقد ارتفعت قائمة الاتحاد الأوروبي للمعادن الحرجة من 14 في عام 2011 إلى 34 في عام 2023، وتشمل هذه القائمة الكوبالت والنحاس، والليثيوم، والنيكل، بالإضافة إلى معادن التربة النادرة 17 المعروفة، وكذلك  الفوسفات الذي يعد ضروريا لإنتاج الأسمدة، وفحم الكوك المستخدم بشكل كبير في إنتاج الحديد الصلب، الذي تستحوذ الصين على 58% من إنتاجه عالميا. أما بخصوص استراتيجية الاتحاد الأوروبي اتجاه المعادن الحرجة فتعتبر معتدلة نسبيا، وتدعو إلى ضمان أمن الإمدادات من خلال توقيع اتفاقيات التجارة الحرة مع موردي هذه المعادن، ولكن النية الاستراتيجية للتخلص من الاعتماد على الصين واضحة جداً، ففي مايو 2022، أعلن الاتحاد الأوروبي عن خطة الطاقة REPowerEU التي تلتزم ببناء نظام حصري إقليمي وجماعي لتوريد الموارد المعدنية، وتهدف الخطة إلى تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري الروسي، وتعزيز التحول الأخضر، وبناء نظام طاقة أكثر مرونة. وفي نوفمبر 2023 توصل المشرعون الأوروبيين إلى اتفاق سياسي بشأن قانون الاتحاد الأوروبي للمواد الخام الحرجة (CRMA)، والذي دخل حيز التنفيذ مايو 2024، ويهدف هذا القانون إلى تعزيز الاستقلال الاستراتيجي للاتحاد من خلال تعزيز الإمدادات وتنويعها ومن أجل تحقيق ذلك، حدد الاتحاد الأوروبي أهدافًا في أفق 2030، على رأسها تحقيق معدل استخراج محلي للمواد الخام بنسبة 10%، ومعدل معالجة بنسبة 40% داخل دول الاتحاد، ومعدل إعادة تدوير بنسبة 25%. ويُظهر هذا الهدف تصميم الاتحاد الأوروبي على تعزيز قدرته على إنتاج المواد الخام من خلال التوجيه السياسي والحوافز السوقية، ويأمل في جذب المزيد من الاستثمارات والتكنولوجيا لتعزيز الإنتاج المستقل لهذه المعادن، ورغم هذه الأهداف، تظهر بيانات حديثة أن نسبة إنتاج المعادن الحرجة في دول الاتحاد الأوروبي لا تتجاوز 7% من حجم الإنتاج العالمي، وأنها متأخرة عن الركب وغير قادرة على مجاراة التطور السريع للتقدم التكنولوجي والمواد الخام التي يتطلبها، وتواجه تحديات جوهرية تعيق الرفع من قدرتها الإنتاجية والمعالجة وإعادة التدوير.

 

(4)

موريتانيا في قلب الصراع

في ظل الصراع الذي يعيشه العالم منذ عام 2014، لا تقتصر المعركة على المناطق الجيواستراتيجية فحسب، بل تمتد إلى الموارد الطبيعية، وخاصة المعادن التي أصبحت ساحة معركة وتنافس بين القوى الكبرى، وتمتلك موريتانيا احتياطات معتبرة من معادن مصنفة في قائمة المعادن الحرجة التي حددتها أمريكا، والصين، والاتحاد الأوروبي، إلى جانب إمكانيات هائلة من الطاقات المتجددة، حيث احتلت موريتانيا المرتبة الثانية عالميا من بين 156 دولة وفق مؤشر (GeGaLo) الذي يقدم رؤية حول المكاسب والخسائر الجيوسياسية، التي قد يواجهها العالم بعد التحول بشكل شبه شامل إلى الطاقات المتجددة، فقد تحصل موريتانيا على فوائد جيوسياسية كبيرة، وتستفيد من إعادة تقييم الاتحاد الأوروبي وغيره لمواردها المعدنية، والتي على رأسها خام الحديد الذي يبدو أن مناجمه على المستوى العالمي قد تكون إحدى ساحات المعركة، وذلك بعد إدراج كل من المملكة المتحدة، وكندا له ضمن قائمة المعادن الحرجة في عام 2024، هذا بالإضافة إلى الصين التي تعتبره من المعادن الحرجة منذ 2018، وقد تحذو أمريكا حذو بريطانيا والصين وتضم خام الحديد إلى قائمة المعادن الحرجة خاصة في ظل سعيها الحثيث إلى تجديد بنيتها التحتية الشرط المسبق لإعادة الصناعة إليها، ولعل المناقشات بين شركتي ريو تينتو (Rio Tinto Group) وجلينكور (Glencore) لبحث اندماجهما وتشكيل أكبر شركة تعدين في العالم ليس إلا إشارة إلى تفاقم المخاطر الجيوسياسية في صناعات خام الحديد والصلب، وهو ما قد يجعل موريتانيا أمام معادلة معقدة تتطلب توازنا دقيقا بخصوص احتياطاتها الهائلة من خامات الحديد، ومما يزيد الطين بلة تواجد مناجم الحديد إلى جانب مصادر الطاقات المتجددة من شمس ورياح جنبا إلى جنب، وكذلك الحديث عن منطقة مرجحة بأن تكون "بلبارا إفريقيا" في مثلث ما يزال يخضع إلى حد ما  لتداعيات حرب قضية الصحراء هذا من جهة، ومن جهة أخرى المنافسة على سلسلة توريد "المعادن الحرجة" الأخرى التي قد تطال موريتانيا نتيجة لدرجة التداخل الكبيرة في أنواع المعادن الحيوية الاستراتيجية بين الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والتي من بينها 21 معدنا متداخلًا بين القائمتين الصينية والأمريكية، و17 معدنا متداخلًا بين الصين وأوروبا، وهو ما يعني أن المعدن الأساسي مهم بالنسبة لكلا الطرفين أو الأطراف الثلاثة، ويفتقر إليه الجميع، وبالتالي فإن المنافسة في سلسلة التوريد أمر لا مفر منه، وقد يجلب معه تحديات جيوسياسية، وربما أمنية لدول مثل موريتانيا، ولقد أثبت التاريخ مرارا وتكرارا بأنه عندما تصبح الموارد المعدنية أوراق مساومة في اللعبة بين القوى الكبرى، فإن السلام يصبح السلعة الفاخرة الأكثر تكلفة، ووفقا لبيانات برنامج الأمم المتحدة للبيئة فإن 40% على الأقل من النزاعات داخل الدول في السنوات الـ60 الماضية كانت مرتبطة بالموارد الطبيعية.

 

تقوم الدول بإدراج المعادن باعتبارها "معادن حرجة" استنادًا إلى اعتبارين رئيسيين الأول  يتعلق بضرورتها لتطوير الصناعة العسكرية والدفاع الوطني والصناعات الاستراتيجية ؛ أما الاعتبار الثاني فيتعلق بالندرة الجيولوجية وتعريض البلد لمخاطر في سلسلة التوريد، ولقد بات من الواضح أن الولايات المتحدة تعمل على تسريع بناء تحالف عالمي للمعادن الحرجة  على شكل "ناتو معدني" يضمن تأمين إمداداتها من هذه المعادن، ويساهم في احتواء الصين، وبالتالي تهديد القدرة التنافسية لصناعاتها الاستراتيجية الناشئة لكن المصالح المتضاربة، والقدرة المحدودة على تنسيق الإجراءات بين الولايات المتحدة وحلفائها في مجال المعادن، والانكشاف الاستراتيجي الكبير لذي أبانته حرب رسوم ترامب الجمركية لأمريكا والغرب بصورة عامة أمام الصين كونها المزود الأساسي بالمعادن، يطرح الكثير من التحديات أمام مستقبل هذا التحالف، وقد يكون من مصلحة موريتانيا تماشيا مع إعادة كتابة المشهد الجيوسياسي العالمي من خلال الموارد المعدنية أن تعيد النظر في شروط استغلال مواردها المعدنية الاستراتيجية الهامة، وتبدأ في مراجعة عقودها مع الشركات الأجنبية خاصة تلك العاملة في مناجم الذهب، كما قد يكون من المصلحة أيضا إعادة النظر في بعض الاستنتاجات المستقبلية في مجال الطاقات المتجددة المبنية على فرضية غير دقيقة تتعلق  بالمركزية الأوروبية في العالم، فأوروبا لم تعد مركزا للعالم لا من الناحية الاقتصادية ولا التكنولوجية.