على مدار الساعة

مدني في الثكنات

3 مايو, 2025 - 03:12
محمد الأمين شيخنا الطالب مصطف

تسائلني من أنت وهي عليمة *** وهل بفتىً مثلي على حاله نكر

 

لا تتفاجأ حين تعود إلى رفيقة دربك وقد أخذت الحلاق العزة بالإثم والأنانية بسلبك جزءا من جاذبيتك.

 

وحين تشك ريحانتك أنك أنت الساقي، فقد صرت رقما وأمردا.

 

وقت ولوجنا الثكنة كانت دفعتنا من عدة قطاعات؛

العدل: (القضاة - كتاب الضبط الرئيسين - كتاب الضبط - كتاب عدل).

الخارجية: (كتاب شؤون خارجية - مستشارو شؤون قنصلية - كتاب إدارة عامة)

الداخلية: (محرري إدارة - كتاب إدارة عامة)

المالية:(مفتشي خزينة رئيسين - مفتشي خزينة - مفتشي ضرائب - مراقبي ضرائب - مراقبي خزينة - كتاب إدارة عامة)

الوظيفة العمومية: (مفتشي شغل - مراقبي شغل).

 

عند دخولنا الثكنة تم ترتيبنا في ثلاث سرايا للشباب، وسريتين للبنات.

 

في كل سرية فصائل؛ مثلا كانت سريتنا هي الأولى، فصيلتها الأولى قضاة، والثانية مفتشي خزينة رئيسين وكتاب شؤون خارجية، والثالثة مفتشي شغل.

 

كان التموقع في مقدمة الفصيلة حسب طول القامة ثم الذي يليه مع احتفاظك بترتيبك على لائحة المدرسة الوطنية للإدارة؛

 

ومن جميل الصدفة أن اجتمعت في عبد ربه الرتبة الأولى في المسابقة عند الدخول والرتبة الأولى على السرية عند التخرج مع ما في الصف الأول من إكراهات.

 

وتبقي المؤخرة ملاذا لا يناله الكل.

 

ثم سقطت الأسماء وصار الكل رقما؛

 

وسيق الكل نحو القواطع وهي غرف تحوي أسرّة من طابقين على كل أريكة بدلة عسكرية وحذاء وناموسية وحبل لنشر الغسيل.

 

فلست أنت هو أنت طوال التدريب، وستدرك حين تنسى ما كنت فيه من نعماء أن هذه الأريكة هي أفضل مكان تأوي إليه بعد النّصب.

 

هناك تسقط الأوراق كما سقطت الأسماء؛ وكما سقط عن الأنثى ضمير المخاطب.

 

فما أبعدها من "أنتَ"

 

ستنسى كل شيء سوى أن الثقافة هي ما بقي بعد النسيان، حين تجسدها في انضباطك واحترامك لذاتك وللآخر، وأن الجاهزية هي أول المعايير.

 

يتم الإيقاظ الرابعة فجرا، من طرف أحد العناصر يطرق بيده على الباب، وشتان بينها مع يد ناعمة بها بقايا الطيب،

 

لأجل حصة رياضية ثم بعدها الفطور ونحن في زي رياضي، ثم بشكل منتظم وحسب الفصائل والسرايا ننسحب إلى المقاطع.

 

يستاك من ألف الابتسام، ويصلي من خشي ربه، ويتثاءب في شوق مع انبلاج الصبح من تمثل أهله مع نسمات النهر وقت سكون الباعوض.

 

ثم هي ساعة ترتب فيها سريرك وأغراضك ويبدأ الصراخ والكل في استعداد إلا الكسالى دون انشراح.

 

سرايا وفصائل عليها غبرة ترهقها حياة تراك فيها فاتنات الدفعة تتلقى الأوامر من من يجمع الراحة في روائح ثم لا تملك إلا استُلم.

 

عقيدة العسكري أنه فوقك فهو اختار التضحية لينال الأفضلية على منوال مذهب هيجل في الحرية.

 

حتى العساكر يتفاضل بعضهم على بعض كحال المدنيين والقبائل والأعراق كأنها سنة كونية يواسي فيها الإنسان شعور النقص الذي يعتقده.

 

نسير إلى ساحة العلم

هب هب صه هب هب صه

 

فما أبعد الحبيب من بخور الصباح وكأس دافئة على أنغام فيروز؛

 

فيال تعس صاحب السعادة حين يدرك أن هناك من زاحمه ودون أن يعرق جبينه.

 

يجتمع الكل في ساحة العلم لتبدأ مراسيم رفعه

راحة واستعداد، صدر بارز، ورأس مرفوع، تحية عسكرية، ثم إطلاق النشيد تزامنا مع رفع العلم.

 

كانت المرحلة الأولى تدريبا على ما يسمى النظام المنضبط وهو: كيفية الوقوف في حالة الاستعداد، ثم في حالة الراحة، وكيف تدور إلى اليمين ثم إلى اليسار وإلى الخلف وكيف تنطلق في المسير، وكيف تقف من مراوحة المحل ومراوحة والمكان؛

 

كل هذا في تناغم وانسجام لحظي تام ومدهش لمن لا يعرفه.

 

يستمر هذا النشاط حتى الثانية عشر والنصف، تتخلله راحتين من عشر دقائق.

 

تكون سعيد الحظ إن وجدت ظل حائط تستظل به.

 

يتم الانسحاب دائما في نظام إلى القواطع ودون تغيير ملابس ولا خلع حذاء ودون لبوث تساق إلى الغداء ثم إلى القواطع لقضاء ساعة أو اثنتين ثم العودة في المساء للرياضة ركضا.

 

وقد فقدنا زميلا في مساء حزين، شهد له من يعرفه بالفضل وحسن الخلق؛

 

وقد كان سببا في تخفيف وطأة النسق.

 

ولك أن تتخيل قساوة أحد الأنذال حين قال كنا بحاجة أن يموت أحدهم.

 

ثم بعد المغرب وإلى الحادية عشر بنفس النسق الممل، يتخلله العشاء.

 

لا تتفاجأ حين تُخرج من جيبك حبات تمر أو فستق وأنت جالس على أديم مغبر ليس بينك مع الشمس حاجب وقد أعتمتْ لونك، وغيرك من أهل الأعذار الطبية يجلس في الظل يتأمل كل زملاء الدفعة وكأن الأرصاد الجوية تعنى بالتضاريس.

 

يال تعس العزاب

 

لا تتفاجأ حين تلتمس في من هو جالس في العراء استعداده للتضحية من أجل وطن يحظى بنعيمه أهل التفاهة أكثر من أهل الحلم والحياء.

 

فلا يعلم الكثير من الناس ما يتكبده الرجال في سبيل تأمين هذا الوطن.

 

لن أصف مائدة الطعام.

فما الخوان دونها إلا مائدة شهباء.

 

وإن كان الناس يتفاوتون في النهم والشراهة، ويظل العاقل ذاك الذي يدرك أن الموقف يبقى زمانا بعد صاحبه.

 

تنتهي المرحلة الأولى لتبدأ أخرى أقل تعبا؛ درسنا فيها سلاحي الكلاشينكوف والسيمينوف، فكًا وتركيبا ثم رماية.

 

بعضنا تعلم طريقة الإسناد في الانسحاب ومحاكاة الصلي في الهجوم، ثم درسنا مادة الحس الأمني؛

 

والغريب أن المكونين أوْحوْا إلى أهل السرية الأولى أننا معشر الخارجية رجال أمن.

 

الدبلوماسي عميل لبلده أو جاسوس لجهة أخرى.

 

هكذا هو شاء العلم أو تعمد الجهل.

 

والحقيقة أن الكثير لا يعلم عن هذا شيئا، ولا يعلم أن شهوانيته هي مصدر الضرر عليه وعلى بلده.

 

فعلم المخابرات تحكمه فلسفة الموساد،

 

إنهم يركزون في عملهم على المرأة في التخابر، ذلك أنها تستطيع أن تستمع وتتكلم في الآن نفسه.

 

ولا تثق كثيرا في الرجل.

 

وتركز على البعد الاجتماعي للضحية المستهدفة.

 

والأهم أنها لا تفتخر بإنجازاتها كالرجال.

 

حظي كتاب الشؤون الخارجية بشرف إلقاء تلخيص كتاب عن السياسة الخارجية في المدرج أمام زملائهم من السرية الأولى.

 

كان من حسن حظ البعض أنه انبرى تطوعا للتدريب على المسير في الذكرى الستين لعيدنا المجيد؛

 

إنه شرف يندر حصوله رغم ما فيه من تعب.

 

لا شيء أعظم من سجن الأحرار حتى وإن بإرادتهم.

 

ستواسي نفسك بأن عليك التعود فأنت موظف لا تعلم عن غدك شيئا.

 

وحين يكون بينك مع صغارك فرسخين ولا تستطيع رؤيتهم ستعلم يقينا أن هناك ما هو أعظم من الأسرة (وقد يتلاشى ذاك اليقين).

 

فما أعظم الحرية وما أتفه الحياة من دون ضوابط.

 

في ليالي نوفمبر لم نكن نشعر بلسعات البرد إلا حين نسير كباقي العساكر.

 

أما حين خروجنا على طريقة الصاعقة نردد:

أرضي وأرضي شنقيط مجدي

أرفع علمي أحمي وطني

بالنار بالدم

الدم النار النار الدم

الانضباط عهدنا

 الاعتزاز مجدنا...

 

فإن ما سببه مربعنا من طرب وحماس للمصطفين على جانبي المسير، ومن حرج للفرق العسكرية الأخرى بسبب نشاط حديثي التدريب كان باعثا للفخر.

 

لم يكن التكوين ممتعا أبدا لكن العزاء فيه أنه وقتي.

والناس فيه بين كاظمي الشوق 

ومترصدي قارورة تركتها أنثى عسى ريح بثينا تهب.

 

تجربة مفيدة لمن يألف الترحال

ستتعلم كيف تخدم نفسك وكيف تحتوي الآخر وإن اختلفت طباعكما.

ستعرف أن العساكر ليسوا كلهم عسكريين، وأن المدنيين ليسوا كلهم متمدنين.

وستعلم أن لكل دولة رجال كما كان الحجاج لدولة عبد الملك، وكما كان أبو مسلم لدولة أبو العباس.

 

وأن الدولة لا تكون إلا في ظل الأمن

حينها تزيح كل مليحة خمارها الأسودي

 ويتبتل المتعبد دون أجر الصوم والصلاة.