في غزة، تتساقط القنابل، أما في أمريكا، فيُقتل الصمت، هذا النص يكشف عن إمبراطورية ضحّت بالحقيقة على مذبح أوثانها، واستبدلت الفكر بالطاعة. في مواجهة هذه الخيانة الأخلاقية، ينهض جيلٌ جديد، ليس للخضوع، بل للاتهام.
قبل مدة، وفي نقاش كتبي هادئ، قال لي صديق أمريكي أنجلوساكسوني، محامٍ، خريج جامعتي جورج واشنطن وييل، ما اعتبرَه رأيًا نافذًا: "إسرائيل، في رأيي، تتفوق بشكل ساحق على العالم العربي في الدبلوماسية والاستراتيجية والتكنولوجيا. أما اليهود الأمريكيون، فهم بارعون في التحكم بمفاصل السلطة، لا بفضل الامتياز، بل بالجدارة". لم يرَ في ذلك لا هيمنة ولا اغتصابا للنفوذ، بل ثمرة مستحقة للحداثة السياسية.
عالجت كلماته بعناية، ثم أجبته بهدوء، لم أنازع في صلابة شعبٍ ولا في إنجازاته. إنما طرحت سؤالًا عن الكيفية التي أصبح بها الولاء الإيديولوجي —أي الصهيونية— معيارًا ضمنيًا في قلب السلطة الأمريكية، أرثوذكسية فكرية تحولت إلى رد فعل تلقائي، حيث تُشكك كلّ تمايز، وتجرّم كلّ تساؤل.
حرصت على التمييز بين ما تخلطه حقبتنا: نقد جهاز السلطة لا يعني استهداف طائفة. ولأجل إظهار هذا التشبع الإيديولوجي، استحضرت -لأفنّد لا لأتبنّى- العبارة الملتبسة عن «هيمنة اليهود على الغرب». لا لأكررها، بل لأبيّن أن الخضوع الحقيقي هو للوبي المؤيد لإسرائيل: لوبي منظم، فعّال، يشبه غيره من جماعات الضغط، لكنه يتمتع بحصانة رمزية مضاعفة.
القضية هنا -إذن- ليست هوية، بل سلطة، جهاز سردي قائم على الإقصاء، والترهيب الأخلاقي، وتقديس الذاكرة، ذاكرة تحولت إلى درع، وإفلاتٌ من العقاب أصبح مبدأ.
صديقي رفض الخوض في هذا التعقيد، وبعد أيام، قطع العلاقة، بدافع الخوف، أكثر منه بدافع العداء. خاف من نطق كلماتٍ معينة، وخاف أيضًا، من زعزعة التوازن داخل بيته: زوجته يهودية، و«غزة» كلمة ملعونة. لم يكن يفرّ من فكرة، بل من مناخ، مناخ عصرٍ بات فيه الشك خطيئة، والتفكير تمردًا.
هذه هي المعضلة، أمريكا لم تعد تفكر، بل تُكرر، لم تعد تحكم، بل تخضع.
ما تعبده أمريكا الآن هو رؤية ثنائية وعنيفة للعالم، رؤية إمبراطورية ما زالت تفكر بحدودها، هذا المنطق ليس جديدًا، فالنخبة الأنجلوساكسونية، المجبولة على التوسع، لم تنتظر جماعات الضغط لتضرب، فهي لولا سطوة الصهيونية، ربما ترددت أكثر، وضربت بأقل فجاجة.
إنها أمة رعاة بقر، واثقين بأن كل خلاف مبارزة، وكل صوت مخالف خيانة، والشرق الأوسط ليس بالنسبة إليهم منطقة لفهمها، بل مسرحًا للسيطرة. وفي هذه المسرحية الذهنية، تلعب إسرائيل دورًا مألوفًا: هي ذراع ضاربة، هي موقع أخلاقي متقدم، هي صورة مثالية لأمريكا تعشق ذاتها في مرآة الإمبراطورية.
هذا ليس انحرافًا، بل علامة على نقص فادح: بلد بلا أرستقراطية فكرية: جاكسون وُلد في كوخ، ترومان لم يدخل الجامعة، ريغان مثّل رئاسته كدور سينمائي، بوش الابن، رغم ييل، مثال للامتياز بلا ثقافة، أما ترامب، فهو تجسيدٌ فاضح لإمبراطوريةٍ منفلتة: ثراء بلا نبل، سلطة بلا كبح، فجاجة بلا حياء.
وتحت هذا الفراغ، قلق أعمق: نخبة البروتستانت البيض (WASP)، المهيمنة تقليديًا ولكن قليلة الثقافة، باتت مذعورة من صعود نخبة يهودية أمريكية أكثر تعليمًا، أكثر كوزموبوليتية، أكثر حنكة، وصهيونية حتى النخاع. هذه النخبة، مدعومة بقاعدة إنجيلية متعصبة ونافذة، تمكنت من الاستحواذ على السردية. النخبة البيضاء البروتستانتية لم تتصدّ لها، بل انضمت إليها، بعضهم بقناعة، والكثير بدافع الخوف أو الاستسلام.
فانتقل السرد إلى أيدٍ أخرى، لا عبر مؤامرة، بل بالتنازل وبالزيف.
وهذا التنازل قاتل، ففي غزة، تُقتل الأجساد، وفي أمريكا، تُقتل الأرواح، في غزة تنهار المستشفيات، وفي أمريكا تنهار الضمائر. لم تبقَ لا فكرة ولا دبلوماسية، بل طقس سياسي أجوف. ومن يتفوه بكلمة "إبادة"، طالبا كان أو فنانا، أو صحفيا، يُصلب علنًا.
الشرخ الأخلاقي سافر، فالأجيال الحديثة، مثقفة، أو نقدية، أو يهودية أحيانا، ترى ما لم تعد النخبة قادرة على تسميته: أن إسرائيل تحولت إلى آلة إبادة جماعية، وأن أمريكا تمنحها الحصانة.
هذه الشراكة الحزبية المزدوجة، تلبس تارةً وجه بايدن، وطورًا وجه ترامب، الأول يمثل الخضوع الناعم، والثاني التوحش الأعمى. ترامب لم يكن انحرافًا، بل تجلّيا لضرب القيم الكونية. لم ينسف المؤسسات فقط، بل أعاد تبييض تفوق العرق الأبيض، وأيقظ معاداة اليهود الكامنة. والمفارقة المأساوية أن دفاع أمريكا الأعمى عن إسرائيل يهدد مستقبل مواطنيها اليهود أنفسهم.
الأخطر من ذلك، أن الدولة باعت روحها للوبيات، خاصةً لوبي إسرائيل. من اليسار إلى اليمين، هذا الخضوع أصبح طقسًا يتجاوز الانقسامات. السياسة الخارجية صارت امتدادًا لمصالح خاصة. مشتراة، مختطفة ومنفذة.
وهذا الخضوع يقوم على أساس أوسع: منظومة انتخابية متعفنة، يحكمها المال، وتُقاس فيها الولاءات لإسرائيل أكثر من البرامج أو المبادئ أو حتى الأمة. فمنذ قرار «Citizens United»، باتت الكيانات القانونية قادرة على إنشاء لجان سياسية وتمويل الحملات بمبالغ خفية. الفساد لم يبقَ في الكونغرس فقط، بل وصل إلى المحكمة العليا.
نانسي إيزنبرغ أثبتت أن أمريكا ليست جد meritocratie، بل هرم إذلال. ريتشارد سلوتكين يذكرنا أن خرافة أمريكا مؤسسة على الخلاص بالعنف. وألكسندر هينتون يُعلّمنا أن الإبادة لا تبدأ بالقنابل، بل بالصمت.
غزة ليست شذوذًا، بل مرآة، وفي هذه المرآة، لم يعد شباب أمريكا يرون مجد الإمبراطورية، بل يرون انهيارها الأخلاقي.
ومع ذلك، رغم الانكسار، لا تزال هناك تيارات مقاومة: مثقفون نبهاء، صحفيون نزهاء، فنانون مستنيرون، لكن أصواتهم مشتتة، بلا تنسيق. في المقابل، المحافظون يتقنون الإمساك بالسرد، وفرض الأجندات، واحتلال الفضاء العام.
حرب غزة مع تمزيقها للخريطة، فقد خلقت قطيعة في الأجيال: أمريكا جديدة شابة، متعلمة، ناقدة، متصلة بالعالم تنهض، وتتكلم بلغةٍ لم تعد النخبة الحاكمة تفهمها.