على مدار الساعة

حين يصير القمار لعبة أطفال

17 أبريل, 2025 - 02:53
الأستاذ: أيوب السيد

لم يعد خافيًا أن منصات القمار الإلكتروني قد اخترقت مجتمعنا الهشّ قيميًّا، واستطاعت استقطاب آلاف الشباب، وجنت من وراء ذلك مئات الملايين من الأوقية. كل هذا يجري في ظلّ صمتٍ مطبق من السلطات المعنية، وجهلٍ واسع بين الآباء والمربّين بهذا الواقع المرير، وبما يخلّفه من آثار نفسية وسلوكية واقتصادية مدمّرة.

 

ولو اقتصر الأمر على الكبار، لرُجي أن يتناقص عدد الممارسين مع مرور الزمن؛ إذ تثبت التجربة لكثير منهم أن القمار مجرد سراب، وأن ما تعد به هذه المنصات لا يعدو كونه وهمًا وغرورًا.

 

لكن الكارثة الكبرى أن القمار الإلكتروني تجاوز تلك الفئة، ووصل إلى الأطفال والمراهقين، حتى صاروا هم الفئة الأصلية المستهدفة من قِبل هذه المنصات. مما يجعل إمكانية الإقلاع بعد الإدمان تصبح جدّ متعسّرة، لضعف النضج، وقلة الوعي بالعواقب، وغياب الحصانة القيمية والرقابة الأسرية.

 

لقد آن الأوان لإدراك خطورة القمار على النشء، والسعي الحثيث إلى إيقاف هذا النزيف المستمر الذي ينذر بدمار واسع، لن تكون النجاة منه سهلة في قادم الأيام. وهذا المقال محاولة متواضعة للتذكير بخطورة منصات القمار، وسبل مواجهتها، ووقاية الشباب من أوضارها، وعلاج ما أمكن من آثارها التي باتت ظاهرة للعيان. وقد كتبته بعد متابعة ميدانية واسعة لهذه المنصات، وحلقات نقاشية داخل الفصول الدراسية مع عدد من تلاميذي الذين ابتُلوا بهذه الآفة وأعمارهم تتراوح بين خمسة عشر وسبعة عشر عامًا، أي أنهم ما زالوا يُعدّون أطفالًا في حكم القانون الموريتاني!

 

بين القمار التقليدي والقمار الإلكتروني

لا فرق شرعًا بين القمار التقليدي والقمار الإلكتروني، فكلاهما قمار محرَّم مجمع على تحريمه. بيد أن القمار الإلكتروني أكثر خطورة وأشد ضررًا، لما له من خصائص تميّزه عن القمار التقليدي، ومن هذه الخصائص:

- سهولة الوصول: فأبواب القمار الإلكتروني مشرعة أمام كل وارد، صغيرًا كان أو كبيرًا؛ يكفي أن يمتلك الشخص هاتفًا متصلًا بالإنترنت، ليصير مقامرًا في دقائق معدودة، دون رقابة ولا مساءلة.

 

- الإغراء المتواصل: تتفنن منصات القمار الإلكتروني في عرض منتجاتها المدمّرة، وتُبدع في الإعلان والتسويق لها، ما يجعلها جاذبةً بشدة للمراهقين، حتى صار بعضهم يشترك فيها من باب التسلية أو التحدي، ليقع بعدها في أوحال الإدمان.

 

- الإدمان السريع: إن قابلية القمار التقليدي للتسبب في الإدمان معروفة، رغم أن أكثر أشكاله – خاصة القديمة منها – غير جاذبة في ذاتها. أما منصات القمار الإلكتروني، فهي مصمّمة لتكون مشوّقة، محفّزة، جذّابة في ألعابها، وتنبيهاتها، ومكافآتها الزائفة التي تُعدُّ طُعمًا تُصطاد به عقول المراهقين. فيتحوّل المستخدم – مراهقًا كان أو غيره – من مشترك يبحث عن الربح، إلى شخصٍ يُنفق ماله طلبًا لنشوة "الدوبامين" التي يفرزها الدماغ عند اللعب والمراهنة! وإذا أدمن القمار، فلا تسل عن أثره الخطير في صحته النفسية وسلوكه العام، حتى إن جمعية علم النفس الأمريكية صنّفت إدمان القمار ضمن الاضطرابات النفسية، وجعلت آلية تأثيره وعمله لا تختلف عن آليات عمل المخدرات!

 

إن هذه الخصائص التي تميز القمار الإلكتروني عن غيره، تدفعنا إلى التشديد في منعه، والتنبيه على تحريمه وتجريمه، طاعة لله تعالى، وصونًا للنشء، وحمايةً للمجتمع من أخطاره المدمرة.

 

ما مخاطر القمار الإلكتروني على الأطفال؟

القمار الإلكتروني بلاءٌ ماحق، ما دخل بلادًا إلا ودمّر شبابها، وأفسد مجتمعها، فتنتشر فيها الأمراض النفسية، وتكثر فيها الجرائم، وتنقلب قيمها رأسًا على عقب. ويزداد الأمر سوءًا حين يكون المستهدف به، والفئة النشطة فيه، هم الأطفال والمراهقون؛ إذ تزداد الأخطار نوعًا وكمًّا، ويصعب علاج أضراره وتطويق آثاره المدمّرة مستقبلاً. ومن أخطار القمار الإلكتروني على الأطفال:

 

أولًا: الخطر القيمي والسلوكي

إن إدمان القمار يتبعه حتمًا تغيّر في السلوك والمعتقدات والقيم؛ فالذي يعتاد القمار سيتهاون في أحكام الشرع، لأن من مساوئه المنصوص عليها شرعًا أنه يصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، أي أن صاحبه قد استحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكر الله، وصار من حزب الشيطان، الذين مآلهم الخسران في الدنيا والآخرة. ولا ينبغي الاستهانة بهذا الضرر وخطورته على الفرد والمجتمع، فإن ضياع دين الفرد يعود بالوبال على الأمة كلها.

 

ثانيًا: الخطر النفسي

يتسبب القمار الإلكتروني في اضطرابات نفسية متعددة، تبدأ بالتوتر والقلق، وتنتهي – في أخف الحالات – بالاكتئاب واعتزال الأسرة والمجتمع، خصوصًا حين يخسر المراهق ماله أو يتوهم قدرته على ربح الأموال الطائلة، فيُهزم مرة بعد مرة، فينشأ عنده تعلّق مرضي بالقمار، طلبًا لنشوة تعوّضه عن الخسارة، فيتحوّل إلى مدمن لا فرق بينه وبين مدمن المخدرات إلا في طبيعة المادة. فما أتعس مجتمعًا يكثر فيه المدمنون!

 

ثالثًا: التراجع الدراسي

ينصرف المقامر عن دراسته كلما أوغل في القمار الإلكتروني، فيسهر الليالي في لعبه، ويتراجع مستواه العلمي، ويفقد تركيزه وحماسه للتعلّم، وتتبدل طموحاته، فيصير هدفه الربح المادي السريع، الذي لا مكان فيه للاجتهاد، ولا للمثابرة التي يتطلبها التعلم والدراسة. وقد شهدتُ في فصولي الدراسية من تراجع مستواه، وصار فاقدًا للتركيز، كثير التثاؤب أثناء الحصص، فاكتشفت أنه مدمن للقمار الإلكتروني، كثير السهر عليه.

 

رابعًا: انتشار الجرائم

سبقت الإشارة إلى أن المقامر يدخل المنصة بحثًا عن المال، ثم لا يلبث أن يصير القمار غايته، فيدفع المال لأجله. فإذا نفد المال، بحث عنه بشتى الطرق، فإن لم يجده بالحسنى، لجأ إلى العنف أو السرقة، وغيرها من الجرائم، ولا فرق في هذا بينه وبين مدمن المخدرات!

 

خامسًا: اكتساب عقلية المقامر

يقصد بعقلية المقامر: أن يصبح الشخص كسولًا، اتكاليًا، يظن أن المال يُجنى بضغطة زر، دون تعب ولا جهد. وهذه العقلية تناقض الواقع الذي يشهد أن تحصيل المال، وإنتاج ما ينفع الناس، لا يتمّ إلا بالكد والاجتهاد والمثابرة، لا بالتمنّي واستمطار الذهب والفضة من منصّات تبيع الوهم.

 

إن مخاطر القمار الإلكتروني أكثر من أن تُحصر، وما لم يُذكر منها أكثر مما ذُكر. ومن تأمل في آثار هذا البلاء الداهم، علم أن التغاضي عنه – خاصة في أوساط النشء – جريمة تربوية ومجتمعية لا تُغتفر.

 

ما المخرج من هذه الكارثة؟

إذا أدركنا واقع أطفالنا مع منصات القمار الإلكتروني، وتيقّنا من خطرها عليهم وعلى المجتمع، وجب علينا أن نتحرك بسرعة، وأن يتحمل كل طرف مسؤوليته من موقعه ومكان تأثيره. والخروج من هذه الكارثة بأقل الخسائر يتطلب تظافر جهود عدة جهات:

 

أولًا: الأسرة

الأسرة هي خط الدفاع الأول، والحصن الأهم في المجتمع. فعلى الآباء والأمهات أن يراقبوا أجهزة أبنائهم، ويتحملوا مسؤولية تربيتهم على القيم الإسلامية، ويحدثوهم عن خطورة القمار وأضراره على النفس والمستقبل؛ فكثير من المراهقين يقتحمون هذا الميدان دون دراية بحقيقته ولا بمدى خطورته.

 

ثانيًا: المدرسة

لا ينقضي عجبي حين أقلب النظر في نصوص مادة اللغة العربية، فلا أجد فيها ما يعالج واقع المراهقين ومشكلاتهم. فالواجب أن تُدرج نصوص تتعلق بالتربية الإعلامية، وطرق التعامل مع المستجدات الرقمية: من الألعاب الإلكترونية، ومنصات التواصل، ومنصات القمار، مع بيان أثر الإعلانات ومقترحات الخوارزميات في تشكيل السلوك واتخاذ القرار. فما لم تُحصّن المدرسة تلاميذها وتوجههم نحو الصواب، فستجد على هذه المنصات من يتولاهم بتوجيه منحرف مائل عن المنهج القويم. وانطلاقًا من هذا، يجب تكوين الأساتذة في هذه المجالات، فليس من المقبول أن يجهل أستاذ هذا العصر بهذه القضايا المؤثرة في واقع تلامذته.

 

ثالثًا: العلماء والأئمة وناشطو المنظمات والجمعيات

 يجب أن يكون لهؤلاء عمل حقيقي في توعية الناس بخطورة منصات القمار الإلكتروني، وأن يجعلوا لهذا الموضوع نصيبًا من خطبهم، وحملاتهم التوعوية، وأنشطتهم الإنسانية. فمن عمل الخير: إماطة الأذى عن الطريق، ومنصات القمار من أشد أنواع الأذى، والمساهمة في صدّ الناس عنها عمل صالح جليل.

 

رابعًا: الدولة بمختلف سلطاتها

وقد أخّرت ذكر الدولة عن قصد، لأن أثرها في إيقاف هذه الكارثة يزيد على نسبة 75%، وواجبها أعظم وأخطر، لأنها الجهة المسؤولة أولًا عن تأمين الناس، وصيانة دينهم ودنياهم. يجب على السلطات المعنية، كلٌّ بحسب اختصاصه، أن تسن قوانين صريحة تُجرّم القمار الإلكتروني، وتشدد العقوبة على مروّجيه والقائمين عليه، وأن تُلزم شركات الاتصالات بحظر هذه المنصات، وتُشدّد على التطبيقات البنكية حذف حسابات وكلاء القمار ومن ثبتت علاقتهم به. لا يُعقل أن تحظر دول أوربية - غير مسلمة – منصة من منصات القمار، وتظل مفتوحة في بلد مسلم، تجني من أهله الأموال، وتزرع فيهم داء القمار!

 

أمامنا خياران لا ثالث لهما: إما أن نحمي أبناءنا، أو نتركهم فرائس سهلة تنهشها أنياب منصات القمار... فأيَّ الطريقين سنختار؟